منتديات قصيمي نت

منتديات قصيمي نت (http://www.qassimy.com/vb/index.php)
-   قسم القصص والروايات (http://www.qassimy.com/vb/forumdisplay.php?f=71)
-   -   فارس من أرض كوش متابعة (http://www.qassimy.com/vb/showthread.php?t=765096)

adilahmedyousif 02-07-23 10:19 PM

فارس من أرض كوش متابعة
 
الفصل الثاني

كان النيل في جلاله يسير وضفافه المخملية تشحذ في الناس همم التنزه والشمس تميل ناحية الغروب والنخيل يتمايل طربا مع طراوة تأتي من الغرب اسمها طراوة الصلاح، كان يوما مشمسا وربيعة أمامي كأنها شمس أُخرى أشرقت للتو ومدت أشعتها الذهبية في أراضي قلبي العطشى، وأنا في ترف من الأحلام تهمس في أُذن الراعي.
كانت تنظر إلي من قريب وهأنذا ألف يدي في الفراغ وأدندن لها بأغنية كتبتها لها وكأن الطنبور في يدي واصلت مفرغا كل طاقاتي، إنما لمثل هذا اليوم تدّخر إبداعات النفوس.
يا زهرة النيل على درب الهوى تدللي
إني فرشت على بساط القلب كلّ حرائري
ورسمت خارطة البيان كما سُقيت بمعصمي
وعشقت فيروز العيون سحائبا فاستشرقي
عطر الأماكن زرته وفرشت في عتماته سجادتي
ومددت أسرجة الخيال شواهد فتنسمي
إني زرعتك في دمي
وتمازجت هسمات ليلك في فمي
وعلى الزروع رسمت لوحتك الأنيقة تسلمي
إني أجلك ملكة في عرش عقلي امرحي
هاتي أريكتك البهية وبالنقوش تزيني
إني دعوت النيل والتاريخ هذي ليلتي
بالرقص والطرب الأصيل تمايلي
الزهرة الحمراء في ثوب الأميرة مسرحي
الروح نشوى والصبابة ألقها ﻫﻮ ملهمي
قد زارت الأحلام فجرا عالمي
قد بت ألهو كالصغار بلعبتي
كانت جنان التيه كانت دوحتي
كل السنين تجمعت فرحا ولبت دعوتي
من ساحة العشاق طلت قريتي
بنخيلها وجروفها وتراثها المستلهم
هذي الجبال تمايلت واستوطنت في ليلتي
يا قريتي دعي الخيال كما يريد ويشتهي
غيداء في سفح النخيل تنكري
ما عاد موعدك الجميل قضيتي
إني أتيتك هاهنا
هذي زروعك أثمرت في خاطري
وعلى الطريق العام والحزن النبيل يهزني
وقلت لها بعد أن أنهيت غنائي، ربيعة الساحرة، هيا تعالي اجلسي يا حلوتي، ومدي ذراعيك لي واقتفي أثر القمر بين السحابات الهجينة، بللي ساحاتي العطشى بفيروز ابتسامتك الملائكية، أيتها الجميلة والساحرة والمنتشية بمرح البدر، وركزت على المنحدر الناعم بين الحاجبين، وأحسست بطرب في عينيها وكان بلون الشروق، وواصلت كلامي وأنا أنظر إليها وأقول ربيعتي إنه نفس العنوان، والهدف هو هو، وأمثالي لا يخطئون فهم أهل صيد وفراسة كل شيء يكون في متناول أيديهم إن عزموا على شيء والمراد لابد أن يحققوه، نحن أبناء وأحفاد كوش، ومن في الورى مثلنا؟ كنت أقول لها وأنا نشوان.
اعتدلت ربيعة في وقفتها ونظرت مباشرة في عينيّ وضحكت بصوت جميل، ومنحتني هذه الضحكة إشارة الانطلاق نحو آفاق الهوى، هأنذا أنظر إليها بتمعن أكثر، وأقيس بعينيّ الخبيرتين تلك المسافة بين وجنتيها، وتجولت أيضا لأقيس اتساع حدقة عينيها، وتملكني إحساس رهيب، أغمضت عينيّ وخاطبت نفسي لبرهة، كل شيء مسطر فيها بإتقان. كأن مقاييس الجمال قد أُخذت من هذا الوجه الباهر، وقلت في نفسي أيضا: آه يالها من ملاك! كل شيء فيها يصرخ إغراء وفتنة. لم أر في حياتي فتاة بهذا الجمال والغريب أنها أتت لتجمع التمر ساءلت نفسي، وبدأت أصرخ بأعلى صوت: يا عالم يا عجيب، يا أهلنا الطيبين، أين أنتم أيها السادة؟ أين الرجال إذن في الأرض النوبية؟ أين أنتم يا أبناء حضارة كوش العظيمة؟ وأين أنتم يا أحفاد بعانخي وتهراقا؟ وأين العدالة الاجتماعية في قرانا؟ كيف لفاكهة كهذه تعمل في جمع التمر؟ أين أهل الثقافة وأين كشّافو القنوات الفضائية؟! مثل هذه الفتاة، يجب أن تُقام لها المهرجانات وتطاردها شركات الإعلانات. ثم توجهت بنظري إليها ثانية وقرأت علامات الإعجاب جلية في عينيها: وقلت لنفسي أيضا: من أين خرجت لنا شمس هذا الصباح وأطلقت لنا هذه الفتنة الكونية؟! ونظرت إلى السماء وقلت: آه ثم آه يا ربيعة الكاهلية، لكني في قرارة نفسي كنت سعيدا أن أحدا لم يلاحظ سحر ربيعة من القادمين الموسميين من شتى أنحاء البلاد، وقلت لها: حماك الله من أعين أهل البندر هذا شيء طيب، لأنك محفوظة إلى هذه اللحظة، ولكنني أخشى أن تراك عين متعطشة وتلتقطك مني، أدام الله عزك نخلات جدي، ما دمت تثمرين لنا شتى أنواع التمر من القنديلة وبنت المودة والجاو وربيعة الكاهلية أيضا. كانت الجميلة تنظر إلى بإعجاب بالغ. ربما أسكرتها الكلمات أو هي في الأصل أرادت أن تجاملني، الجميلات دائما ينثرن الفرح أينما حللن، تلك خصالهن، لا أنكر أن ابتسامتها الدافئة قد منحتني بغض النظر عن الأسباب الحقيقة وراء اهتمامها بكلامي دفعة إضافية للمضي قدما في مغامراتي وفي استكشاف هذا البحر الزاخر بالدرر والأصداف. إنها جرعات معنوية للاسترسال في دنيا القوافي، فشاعر مثلي لا ينقصه انتقاء الكلمات وبلورة المعاني وأنا مثل البحر زاخر باللؤلؤ والمرجان، أكتب الشعر كيفما أريد وخيالي يتمدد ويكون أكثر عطشا في مثل هذه المواقف. آه ثم آه يا سادتي ليس كل يوم تفتح أبواب السماء ليهب النيل لنا حورية كربيعة، وليس كل شهر يثمر النخيل ليعطف بنا القدر بيوم رائع أيضا، قلت في نفسي: نعم وألف نعم للسعادة والجمال والحب والغرام، ما أجمل اللحظات التي تغطيها ضحكات الحبيبة! نعم نعم تجاذبنا أطراف الحديث، وفجأة ناولتني من جيبها تمرتين كبيرتين صفراوين، أكلتهما ولقد رأيت أن صاحبتها وهيبة هي التي أخرجتهما من جيبها وأعطتهما إياها، ارتبكتُ قليلا من أمر وهيبة وأنا أنظر لربيعة بفرح وانفجر نهر الشِّعر في رأسي ولم أستطع أن أكبح جنون مشاعري وبدأت أسمعها كلاما نثريا بصوت واثق وشجي:
يا أميرة النيل
وربيعة الدفء السامي
ويا همسة النيل الحيرى في مناجاة الريح
ويا رغوة الأمواج المتجاذبة إلى روح الشطآن
يا أيتها الكاهلية المعتقة بخمر أزهار الجروف
أغيثي أذني بهمسات دافئة
بل أطلقي قريحتك وأشدي
ودندني بصوتك الفخيم وشاعريتك البكرة
تمام الألحان
وشجعي الحمام والطيور للغناء
وأرسلي للنيل همسات الحب والوئام
ولملمي أوجاعنا الحزينة
ارقصي يا سمحة الخصال
وشتتي الشبال
تخيلي رحلة بقارب
والموج في زحام ورغوة بيضاء
طيري مع الحمام
يا بطة الغرام
تقدمتْ ربيعتي نحوي خطوة والابتسامة تعلو وجهها وقالت بثغرها الوثاب: الله الله الله! شكرا لك شكرا لك لقد وضعت القمر بين يدي، وأطلقت عواطفي في الهواء الطلق، لأستنشق نفحات من قطرات الندى، وأردفت تقول: آه منك يا شقي، أشعر برغبة في أشياء كثيرة وتابعت تقول: لقد أعجبتني خفة دمك وانتقاؤك للكلمات الحلوة، أنت تدغدع مشاعري وتثير أنوثتي، يا لك من شاعر بعنفوان نيلنا الخالد! هذه ربيعة موجهة كلامها لي، وهأنذا ثمل ونشوان أحكي لكم من قمة تل الجنون، كم كان وقع كلامها خفيفا وكم أسعدتني امتدادات ضحكاتها الملائكية، آه ثم آه ثم آه! أين أنتم يا رفاقي؟ كم هي ممتعة وصلات الغرام وبعد لحظات تسلقت إحدى نخلات جدي، وقطعتُ لها كل السبائط الموجودة في تلك النخلة وقلت لقريب لي أصغر مني سنا أن يعبئ لهما جوالين من التمر، وشرع الشاب على الفور في عمله، اتجهت صوب الجميلة وخاطبتها: يا ربيعة النيل وقلبي، أنت تستحقين محصول هذا العام كله، كل هذا التمر لك وإن أردت المزيد فابتسامتك أوامر لي، كانتا تنصتان إلي بإعجاب هي ورفيقتها وهيبة التي بدت عليها سعادة كبرى. بما أن كل كلامي كان موجها لهدف معين ألا وهو ربيعة الكاهلية، سُرت الجميلة ربيعة كثيرا لتصرفي، لكنها قالت لي، الوقت قد تأخر، اسمح لي أن أستغل باقي الوقت في جمع التمر، لا تجمعا شيئا، بادرتهما بالقول، لقد كلفت شخصا آخر لجمعه. بعد ذلك قلت لها: ألا تعلمي يا ربيعة أنني وفرت لك الكثير من الوقت؟ ردت ربيعة على كلامي لها: نعم أنت محق، والله إنك لم تقصر معي أبدا، أعترف لك أنني أول مرة أحس بقيمة جمالي، ومن أجل ذلك، سأعتبر كل ما وفّرتَه لي من وقت جراء وقفتك معي لك وسأحسب ساعتك بساعتين لأظهر كرمي لك وضحكت وأنا أيضا ضحكت لهذه الطرفة، ثم تبعتنا وهيبة بضحكة مطولة وتبعتها ربيعة بالقول: تلك هدية مزدوجة أن ينهال علي كل هذا الاهتمام من شاب مثلك وأي شاب؟! ثم أردفت تقول: أنا أحب الشعر ومغرمة به أيضا، ثم قالت: لو كنت حقا كما سمعت وأنت حقا صاحب كل الشعر الذي سمعته فأهدني قصيدة أخرى الآن. كررتها مرتين الآن الآن، ثم عضت شفتيها بدلع، ولطالما أحببت تلك اللعنة في حركة شفتيها. نظرت إليها مليّا وقلت لها: آه صحيح أنني شاعر وأي شاعر لا يستطيع أن يصمد في رؤية هذا السحر الذي يسكن في عينيك، وسرعان ما ارتجلت وأنا ثمل برؤية ثغرها الوثاب، وأطير في ملكوت الفن السخي.
يا فتنة العين يا حورية النيل
إني أحبك يا بنت البساتين
عطر الأماسي ودفء الليل أطربني
همس اللسان ولون الورد والزين
شوقي إليك تراتيل معتقة
خمر فخمرا وذاك الكون يحميني
ووضعت يدي اليمنى على صدري
وواصلت مرح القوافي
وأنا مدجج بسلاح رضائها عني
إن غبت حبي وخارطتي
ويا لغتي تبقى الحروف بلا طعم وتلوين
قلبي يهواك ها قد اكتوى كمدا.
كانت الجميلة منتشية وظننتها ستطير بعد حين، مما شجعني أن أواصل جنوني، وهأنذا أواصل الشدو ثانية بعد فترة تأمل لشفتيها التواقتين للكمال.
القلب يدمع قبل الحس والعين
وفيك ما فيك يا روحا مهندمة تتلو جمالا
يحاكي النجم والنيل
وطيف حاجبك في صورة القمر
قبل التمام فيا من منظر فنن
ونبل مقلتك تبدو سواحله كالبحر مدا
وكم تحوي من صدف ومن زين
ورسمة الفم فن في خلاصته
وتيه مشيتها للحب تلقين
يا فتنة العين يا حورية النيل
دعيني أغني وما للوصف تمكين
دعيني لأرسم ما في العقل من فنن
يا فتنة النيل يا حورية الكون
تاه الخيال ومالي في البكا لغة
وسرحة النجم الساري إلى حين
إني أنا الشاعر النيلي
راحلتي تمتد موجا وأزهارا وتنين
قاطعتني هنا وقالت، يا لك من شاعر مجنون، وضحكتْ بهستيريا، وواصلتُ سلم انفعالاتي.
ورب دار كساها القلب من كمد
أعدت لجوفها نفس وتأمين
حتى إذا جاءت الأقدار في كنف
أذاقها الشوق وجع الحب من تين وزيتون
لقد أحدثت هذه القصيدة ثورة في علاقتي بها، وحقا عبّرت حركات عينيها ودموعها الغزيرة، ربما الآن أحبك أكثر، كانت تبكي صراحة، وتلك الدموع كماء الذهب. بل إنني قرأت في عينيها المنتشتين ما هو أبلغ من كلامها ودموعها. وقفنا للحظات ننظر إلى بعضنا، وبعد فترة صمت، قالت الجميلة: هل يمكننا أن نجلس ونتجاذب أطراف الحديث إنه لشرف عظيم لي أن أقضي كل هذه اللحظات معك، ثم كرّرت هيا نجلس ونتعارف على نحو أعمق إن أردت يا. . ولم تكمل وسكتت، قلت في نفسي وأنا أتأملها مليا: الله الله! الغزالة قد وقعت في الشرك، لكنني لم أكن لأرغب في المضي قدما على هذا المنوال فالقصور الفارهة تبنى طوبة طوبة، أن تزرع فدانا في الجروف يستغرق منك تعب أسبوع كامل، وقلت في نفسي تمهل يا عبد المعين ما هكذا تورد الإبل. في تلك اللحظة كان هنالك نحو جوالين من التمر يكفيانهما عناء العمل لأسبوع كامل أو يزيد، قد جُهزا لهما من قبل الشاب، جلسنا يا سادتي نحنُ الثلاثة والأرض الواسعة افترشناها والسماء الصافية ممتدة إلى ما لا نهاية، وأحلامي بحجم الفضاء. قالت صاحبتها وهيبة لي فجأة: هل تريد أن تعرف حظك؟ قلت لها: لا أفهم عن أي حظ تتكلمين؟ وما زلت أشك في أمر التمرتين اللتين أعطتهما لأميرة حبي. دققت في كلامها يا لهول ما أصابني. عليها اللعنة! من أين تعلمت هذه الصغيرة قراءة الحظ وهل هنالك من هو أسعد مني في هذه اللحظات حتى تأتيني وهيبة هذه بكلامها عن الحظ والنصيب؟ وأنا أخفي خوفي وتوجسي قلت في نفسي: اللعنة من أين اجتمعت هذه المصيبة مع ميدوب إذن ولقد خطر في بالي لقائي بها في ذلك اليوم وراودني هاجسٌ أيضا هل لربيعة علاقة بميدوب؟ لكنها أي وهيبة قاطعت حبل أفكاري وقالت افتح يدك أين تسرح؟ يبدو أنك ضعيف أمام الجميلات وواصلت كلامها: انتبه إلي جيدا، أنا قارئة كف محترفة. قلت في نفسي ربما قراءة الكف في مثل هذه اللحظات وأنا أنظر إلى ربيعة الكاهلية وإلى تلك الشفتين المعرشتين بنار الغرام لا تعطي قراءات صحيحة. كانت هذه الفكرة تدور في رأسي وكانت عيناي لا تفارقان رؤية ربيعة إلا لماما. قلت لوهيبة وأنا مبتسم أو متصنع الرضا: نعم نعم شيء طيب جدا ما سمعته منك يا عزيزتي، لكن إياك أن تقولي لي: إنني لا أستطيع أن أتزوج مستقبلا ربيعة الكاهلية ولو من باب المزاح. وبدت ملامحها جلية كما رأيتها مع ميدوب كنت خائفا منها ولكنني تمالكت نفسي وقلت لها: إن مثل هذا الكلام سيكون انتحارا لك لو تحقق، أنا سأعتبرك السبب الأول والمسؤولة عن تلف إرادتنا، تركتها والتفت إلى ربيعة ووجدتها منتشيه بصورة جاذبة ومتوثبة كأنها تريد أن تحضنني. عدت إلى عرافتي وقلت لها: إن كان كلامك هذا مؤامرة منك تأكدي أنني لن أترك كلامك يمر هكذا، بل إنني سأعاقبك عقابا لن تنسيه أبداً، وربما لن تستطيعي أن تأتي إلى هنا بعد اليوم، خذي كلامي على محمل الجد، ما أن انتهى كلامي إلا ووجدتها تضحك، لماذا تضحكين قلت لها متسائلا، أخشى أن حظي السيئ تجسد لي في صورتك وأنت تخططين الشر لي، وتقفين في طريق الخير. رمقتني بنظرة غامضة واعتدلت في جلستها وقالت: لا لا يا صديقي عندما تحب حقا لن تبحث عن السعادة في موائد الآخرين، إنما هي نفسها (أي السعادة) ستنام معك، الحبّ يا عزيزي هو أن تظل دقات قلبك في نسق تصاعدي، وثق أن العشاق لا يشعرون بحلول الظلام لأن الأنوار تغطي قلوبهم دائما، وواصلت كلامها ما الذي يجعلني أكذب عليك إن كنت لا أعرفك جيدا؟ لكنني مترعة بحب صديقتي الجميلة وكانت تنظر إلى ربيعة وهي تبتسم. كانت ربيعة أيضا تبادلها نفس نظرات الحب والإعجاب، (الحَلة وغطاها) كما يقول المثل الكوشي القديم. وقالت وهيبة لربيعة بصوت خافض: أنا سأربط بينكما إلى الأبد وسأربط نفسي بحسن جمعة حبيبي أيضا إلى الأبد، والمعروف للجميع كما ذكرت لكم أن هنالك نخلة عالية لها سبعة أفرع عمرها حوالي ثلاثة آلاف عام يحكي أنها من عهد بعانخي ولقد غرسها الملك بنفسه، وإليها كانت تنسحب أرواح الكنداكات اللائي توفين في النيل، من يأكل منها تمرة أو تمرتين إما أن يعود إلى محبوبته أو يفقد عقله. إن تمرة واحدة تجعلك تتكلم سبعة أيام تواليا في السياسة وتنسى أمر الحب والعشق إلا لحبيبك الأصلي، والأعجب أن هذه التمرة تعادي غيرها لو أكلت تمرة واحدة فإنّ أي تمرة تأكلها بعدها تعطيك نفس المفعول. لقد أسماها الكوشيون القدماء الشجرة الخالدة، لكن ليست كلّ فروع تلك الشجرة مقدسة، فرع واحد منها فقط وفي الفرع سبيطة واحدة، بعد أن أكملت همسها مع ربيعة اتجهت صوبي بنظرها وقالت وهي تنظر إلي كأنها تتفحصني: يجب عليك أن تثق يا عزيزي إنني قارئة كف محترفة، لن أكرر لك كثيرا هذا الكلام إذ غالبا ما تصدق نبوءاتي. لقد تنبأت قبل ذلك بقيام سد مروي، وبهبوط العملة الورقية واختفاء جزيرتي( جِرجَا وقورتين ) النيليتين، وبأمر الهدّام على شواطئ قرية مولين إركي وبأمر الحرائق الكثيرة للنخيل، كما جلدتُ رغباتي بسيرة ذائعة الصيت وملهمتي دوما كانت العرافة الشهيرة أم زينب الهوارية، وأم زينب هذه كانت معروفة حقا، إنني أتذكر ذلك جيدا من حكايات جدتي كثيرا ما سمعت عنها في أحاديث الآخرين أيضا، سأتطرق إلى سيرتها في غير هذا المكان. قلت لها: جميل جدا، جميل جدا ما أسمعه منك يا وهيبة، لكن الكلام متاح حتى للمجانين لكن إثبات الكلام بأمور عملية هو بيت القصيد. نعم نعم، نحن شعب نؤمن بالخرافات ولكن في نفس الوقت نؤمن فقط بتلك الخرافة التي يمكن تصديقها، اسمعيني جيد يا وهيبة وتابعت كلامي: ولكن الآن علينا أن نستغل الوقت بأحسن طريقة ممكنة، إذن هيا بنا وفتحتُ لها يدي، وأنا أنظر إليها بسخرية، كانت وهيبة منتشية جدا وعلامات النصر بادية على وجهها، كانت تبتسم وتتمتم مع ربيعة بكلمات لم أستطع أن أسمعها، وهذه الحالة أغاظتني جدا ولكني بدافع من فضول عارم تجاسرت وواصلت صمودي. ضحكت وهيبة بعد أن تركت يدي، ربما لاحظت في شيئا يشبه الارتباك قليلا، وتبعتها ربيعة بالضحك بصوت أعلى من صوتها، أنا أيضا أطلقت عنان الضحك نكاية بضحكاتهما التي لا أراها مبررة، تمازجت أصواتنا ولم أعد أعرف كيف سينتهي بنا الأمر. في بالي كان يدور سؤال واحد وقديم ما علاقة ميدوب بربيعة وما علاقة الثلاثة ميدوب وربيعة وهيبة بالشجرة الخالدة؟ هل ميدوب صديق وهيبة فقط أم أن ربيعة أيضا تشتبك في بؤرة السر العظيم؟ أحسست بشيء غامض يسري في جسمي وفكرة سوداء تسيطر على عقلي، هل هؤلاء سحرة أم ماذا؟ وكانت نظرات وهيبة الغامضة كأنها توقظ في دواخلي الخوف وتقول ربيعة ليست لك، إنها عالم يتعارك فيه أناسٌ كُثرٌ.
لم أكن أتقبل هذه الفكرة بتاتا ولو من باب المداعبة قلت: إن هذه الحورية قد شدّت رحالها إلى عالمي، وأقامت قصرها المنقوش في شرايين قلبي، بينما أواصل شرودي الذهني في عالمها، وفي غمرة انشغالي بساحرة قلبي كما قلت لكم، أمسكت وهيبة يديي بقوة ثانية وأنا بدوري فتحت لها يدي وبدأت تتأملها بتوجس. ما زال طعم التمرتين في فمي، وقالت وهيبة لي بصوت واثق وشجي: اسمعني جيدا، واجعل أذنيك الاثنتين تنصتان تماما لما سأقوله لك سادت دقيقة صمت كأنها ساعة من الزمن وأردفت وهيبة تقول: كفك فنجان في وضع يبدو لي مقلوبا، قلت لها: وأنا أتصنع الضحك أيها المطرب الخالد عبد الحليم حافظ العندليب النيلي، أين فرقتك الموسيقية إذن يا وهيبة؟. وغنيت لها (يا ولدي لا تحزن، فالخوف عليك هو المكتوب)، قالت لي وهيبة: صوتك جميل وجذّاب، قلت لها: شكرا شكرا أيتها المعجبة، كنت أنا أمزح ظاهريا ولكني في حقيقة الأمر كنت خائفا بل مرعوبا، يبدو أن العفريتة قد لاحظت أمري. نظرت إليّ وهي تشدّ يدي بقوة وبصرامة، ثم قالت: لا تخف يا ولدي، وكررت لا تخف يا أخي أ أنت رجل أم امرأة؟ الرجال هنا لا يرعبهم شيء إنهم بلا مشاعر، حتى لو لدغته عقرب يقف صامدا كالصخر، أو كالنخلة الحمقاء والتي كأنها وتد في الأرض أو حجر، ومعذرة يا صاحب الطلاسم (إيليا أبو ماضي) إن استعرت شيئا من شعرك، ونظرتْ وهيبة إلي وقالت اتفقنا وكانت توجه كلامها لي مباشرة، قلت لها: نعم نعم لا بأس، افعلي ما تريدين، ومددت يدي إليها وبدأت وهيبة تقرأ وتقول حقيقة أرى فنجانك في وضع مقلوب كما قلت لك وحبيبة قلبك سارحة وسط النخل وفي عرس الروح وكحـل العينـين وفي رمل الشطآن، لكن هذا لا يعني شيئا ولا يعني أيضا أن السعادة لن تأتيك أبداً. وأن حياتك ستسوء. بل يعني أن حياتك ستمرّ بمنعرجات غير طبيعية، وأزيدك يا صاحبي من الشعر بيتا، أن هذه الفتاة قد مشت بعيدا في استفزازي وأنا كنت مستسلما تماما، كانت وهيبة مازالت تواصل كلامها موجهة إياه إلي: لا لا يا صاحبي الفجر الموعود آت، في شكل وطن قد يبدو حلما، أو هدّاما يقلع نخلا على الشاطئ ويرميه في النهر أو ذئبا ينقض على حظيرة البهائم ويعدمها جميعا، أو نظرة طفل يبدو مرعوبا وقت السيول ومضتْ تقول: ولكن انقضى وقت الخوف لا تخف يا حلو المعشر و يا ابن الأرض البكر، وريث الثروة والجاه. تأكد أن مستقبلك جميل بربيعة أو بغيرها. أنت رجل مبدعٌ وخلّاق وشاعرٌ عظيم، نعم إنك لم تسوّق نفسك بطريقة جيدة، لكني أؤكد لك أن اسمك سيذهب في تاريخ قريتكم كأحد أعظم شعرائها، قلت في نفسي لماذا يا تُرى قالت قريتكم، كأنها ليست من هنا، من أين أتت هي يا تُرى إن لم تكن من قريتنا ساءلت نفسي، وتابعت أسمع ما تقوله لي، سيكون للنيل من شِعرك نصيب، سيكون لك شأن عظيم ولكنك ستمر بنفق نصفه ضوء ونصفه ظلام. هنالك بقع بيضاء وأخرى سوداء قاتمة. قد يأتيك الحظ في شكل رجل يصادقك ويقف بجانبك وقت الأزمات، أو فتيات كثيرات تستمتع كثيرا معهن، بنات من طينة أخرى ومن بلدان أخرى، بنات ترى الدم في عروقهن يجري والذهب في شعرهن يلمع، والزرع في عيونهن يخضرّ. يمكن أن يأتيك في شكل فاتنة تتحرك فوق الجليد تمشي أحياناً كأنها قارب يجدفه التيار وتطير أحياناً كطائر الفينيق. ليس مثل الطيور تماما، وتمنحك قبلة وأنت قابع في تل جليدي، أو ربما يأتيك حظك فوق جرف نيلي، وربما يأتيك وأنت تسبح في النيل كبطة تسبح في الماء، لكن ثم ماذا بعد يا وهيبة؟ سألتها وأنا مرعوب وكنت أكتم غيظي، تأوهتْ قليلا وأخذتْ نفسا عميقا وأحسستُ أن وهيبة تضغط على يدي ثانية كأنها تريد أن تسمعني بكل صفاء كل ما تريد أن تقوله، دون تشويش، وقالت بصوت خافض وملامحها قد تغيّرت تماما: ربيعة ستكون معك إلى الأبد بصورتها مرسومة في جدار عقلك، وبروحها، ولكنك لن تتزوجها أبداً. وقع هذا الكلام كالصاعقة على عقلي وقلبي وقلت: إن شاء الله أنت كاذبة، وبإذنه تعالى سيكون كلامك مجرد تخريف ساحرة بائسة لا تحب الخير للمحبين، وارتبكتُ قليلا وأنا أنطق بصوت عال كلمة ساحرة، لكنها أومأت برأسها كأنها تعتذر دون أن تقف كثيرا لوصفي لها بالساحرة وقالت: هذا لا يعني أنك لن تجتمع بمحبوبتك القدرية كحبيب وحبيبة، ربما بطريقة عابرة ستريان بعضكما البعض، إن النقاط ليست واضحة، فخطوط يدك متشابكة جدا، لم أقرأ كفا كهذه طوال حياتي، أقول لكم: إن هذه الكلمات قد أرعبتني وشعرت بدوار وصداع. حاولت أن أمسك ربيعة وأقول لها نعم يا ربيعتى الآن الآن أحبك أكثر. ونسيت أمر العرافة وقلت لها: ربيعتي وأميرة قلبي أيتها الميدالية الذهبية، لن تبارحي عنقي، أنت خلاصة المعادن النفيسة في باطن الأرض السليبة، وقلائد الأميرات عبر العصور، وأنا البطل الخارق لمقتضيات المبارزة، سأقطع البراري وسأنطلق على صهوة العزيمة، ولن يجرؤ فارس كوشي على اللحاق بي، عندما يخص الأمر ماراثون حلبة حبك.
انطلقي يا مهرة الهوى يا ربيعة السعد، هنالك ما وراء المجرات تنتصب خيمة أميرك. والتفت إلى ربيعة وهي غارقة في دموعها كفى كفى، لا أستطيع أن أسمعك أكثر ولكني واصلت كلام النفس للنفس معها مقتبسا الهداية من رحمن الذات وإيماءة العاطفة: ورفعت صوتي وقلت لها: لا تستمعي إلى كلمات هذه المعتوهة أبدا ربيعتي الجميلة، أنت لي ولا أحد في هذا العالم يستطيع أن يأخذك مني، فجذورك يا سيدتي ضاربة بأمر الهوى في أعماق الأرض البكر، ومعاولي عطشى للتوهان بعيدا في الهوة السحيقة من ذاكرة الهوى، ثم حضنتها بكل ما أملك من شغف وحنان دون أي اعتبار لمن حولي. وكانت ربيعة غارقة في الحب حتى أذنيها. أرادت أن تبتعد عني لكنها لم تستطع؛ لأنها كانت مشتاقة إلى هذا العناق الدافئ ربما، استسلم ملاكي الجميل. ونامت بين ذراعي كطفلة صغيرة أتعبها الأرق، يا لها من لحظة سُكرى في جبين الصمت! كنت أقبّلها في كل وجهها وأقول لها مهلا ربيعتي ابقي معي إلى الأبد. كانت تنظر إلي نظرات غامضة ولكنها ودودة، إني أرى الدفء الذي ينبعث من عينيها كأنها تقول وأنا أيضا أحببتك وحبي لك في حدود الشمس، أحببتك يا صديقي وهل للحب حدود؟ وأتمنى أن أقضي العمر كله معك أيها الأمير الكوشي وواصلت ربيعة إن دقات قلبي تنبض باسمك الآن. حبيبي عبد المعين على كل حال الله يعين، لم تكن الجميلة تتكلم هكذا، لكنني قرأت في عينيها وسم الهوى الغلّاب. وتواعدنا أن نلتقي اليوم التالي.
ذهبت باكرا إلي ضفاف النيل في الوقت المحدد ولكني وجدتها هناك ومنذ ذلك اليوم ها نحن نلتقي يوميا.
كانت الجميلة في أبهى صورها في ذلك اليوم المشمس وكانت سعيدة جدا تارة ترقص وتارة تغني لوحدها ولقد كانت قريتنا تمتاز بوجود جزيرتين صغيرتين جميلتين على النيل. ولقد أعددت لها بدوري أغنية تليق بجمالها الخلّاب وكنت قد أعطيتها لفنان القرية، وكان قد لحّن كلماتها وغناها و هأنذا أغنيها لحبيبتي الشاعرة ومحبة الأغاني. كنت أراقصها في تلك اللحظات والنيل شاهدي وأنا أغني بصوت فخيم وأدندن في أذنيها، وألهب مواضع الدفء في قلبها، وهذه هي كلمات الأغنية:
أهتف هنا من أرضنا القديمة
من دكة رملية من قريتي اليتيمة
وجرفها السهلي يتراءى كبؤرة وسيمة
قد هزني النيل وأمواجه الهديمة
قالت لى واصل يا جميلي، لا تتوقف أبدا كل الجمال والسحر في إلقائك للشعر وأدائك للغناء وواصلتُ أنا مرح الشعر وكلي حب لكلامها.
وطاف بالنخيل وجز فيه مثل رتل الغنيمة
وأنا على عهدي بروحي الهجينة
تركت تلك الساحة الكلومة الهديمة
وجئت مسرحا كأنني حفظته كسقية التميمة
وصوتي الحزين في متاهة الغناء كم فطيمة
بلغة مهرية الحروف ونزعة حميمة
موزونة مسكوبة وصحوة سليمة
الشوق والآهات واللغة العليمة
في سهرة نيلية وردية يتيمة
حلمت بنُوبا وعهودها الفخيمة
تهت في غيي بأغنية قديمة مقيمة
يأسرني الطمبور بأوتاره الحزينة
تطربي السواقي بمسحة وجيعة حليمة
قد طافت ببالي أوجاعنا القديمة

الله الله! قاطعتني ربيعة وفجأة حضنتي بقوة وهي تصرخ حبيبي. واصل واصل، وكأنها أحست بالذنب ابتعدت عني لحظات وقالت: واصل يا حبيبي، ووافقتها وأنا كلي حب وغرام للجميلة
أبعث لكم يا سادتي الشهود فأنا أحببت الأرض التي أنجبتْ وأهدتني هذه القلادة الماسية ربيعة الكاهلية وقلت في نفسي: على أية حال لم يبق في ديارنا ما يفرح فحال المنطقة لا يسر أهلها ولا القادمين إليها ولولا فسحة الإشراق والأمل في حب جميلتي لمت كمدا وأصابتني حالة من عدم التوازن وتذكرت حالنا وقلت وأنا كلي غرام بأرض آبائي:
أنعى لكم يا ورثة الزمان والعهود
تراثنا المديد في ثوبه التليد
وطافت بناظري والنيل في قعود
كنداكة تنسج بحر الود في شرود
والنيل في إيماءة يسير في برود
من أرضنا السليبة وبرجها العتيد
غنى بعزف جامع يا إخوتي وحيد
يا فورة الخليل وفنه الأصيل والمديد
يا شبقا في سكره للحن كم فريد
والليل في ميزانه الخلوي كم يميد
والفتنة الهوجاء في غلوائها صعود
يا حضرة التاريخ يا ريانة الخلود
لاسمك القمري وكهفه الودود
للشيم العذراء لخصلة الجدود

كانت الجميلة تائهة بكل ما فيها من ألق وجمال وحزنت لحزني، وإني أرى عينيها كأنهما تنادياني وتقولان لي: هل من مزيد، لكنها تركتني فجأة وبدأت ترقص بمفردها بصورة جميلة. وكانت تقول المزيد من الحب وليس المزيد من اليأس أترك أمر أحوال المنطقة وتحدث في أمر حبنا.
كانت خصلات شعرها تتطاير مع طراوة الصلاح، وأنا أيضا ألف حولها كأنني ساقية تدور، والنخل شاهد على مرح القلوب. بعد أن انتهيت من لحظات ساحرة بيننا نظرت إلى جانبي ووجدت حسن جمعة ووهيبة جالسين كأنهما ينصتان إلى كل ما جرى، سرعان ما دعوتهما لكي يأتيا وينضما إلينا، ولقد لبيا الدعوة بسرعة وبينما نحن وقوف نتجاذب أطراف الحديث بتنا نفكر في شيء نأكله، لم تكن معنا صنارة أو شبكة صيد، وكان من المستحيل أن نصطاد سمكة واحدة لأن الجو قد تغير وأصبح باردا. سرحت قليلا في أمر الصيد وفي تلك اللحظات انتبهت أن وهيبة قد اختفت، كأن الأرض قد ابتلعتها، وأتى حسن إلي وقال لي لقد ظفرت يا صحابي بملكة جمال كل المواسم وليس هذا الموسم فحسب ولكن الجميل والذي اعتقد فيه جازما أنه ما من شاب يستحق كل هذا الجمال والسحر غيرك أنت يا صديقي وأنا سعيد بك ولقد تمنيت لك ذات يوم واستجاب الله لدعائي وتقدم حسن نحوي وحضنني بكل صداقة ودفء وبينما نحن هكذا في حرم اللحظات الرهيبة، ثمة صوت من بعيد شقّ صمتنا وكنت أريد أن أستوعب ما جرى، فلحظات السكون غالبا ما تعقبها العواصف المريرة جاء من بعيد فتى صغير جميل المحيا، ضئيل الجسم، في مشيته عرج بسيط ربما، لا أدري أو هكذا بدا لي، كان يهرول، على ما يبدو أنه جرى مسافة طويلة دون توقف. إن أنفاس الفتى تحكي أنه تعب كثيرا ليصل إلينا. وقف أمامنا رافعا رأسه منتصبا، جال ببصره ناحيتنا وأخيرا استقر نظره ناحية ربيعة، قال متسائلا: هل أنت ربيعة؟ ردت عليه ربيعة: نعم أيها الفتى ما الخطب؟ ومن أرسلك إليّ؟ جاوبني بسرعة، قال الفتى: لا أدري كيف أنقل لك الخبر، عفوا والدتك مريضة جدا، إنها تريد منك أن ترجعي في أول سيارة متجهة إلى وادي السليم، ابن عمك أحمد أرسلني إليك وقال لي ابحث عنها بسرعة وأعطاني هذه الحلوى هدية لي وكان سعيدا. وهو يطلب منك العودة فورا إلى البيت للاستعداد للسفر والعودة إلى وادي السليم لرؤية والدتك المريضة.
لا أدري هل أحمد هو أرسل الفتى كما أم أن وهيبة هي التي أرسلته؟ تحولت لحظاتنا السعيدة إلى شقاء. كانت ربيعة تفكر في أمها وأنا كنت أفكر فيما قالته وهيبة بشأن حبنا، وأيضا فيما قاله الفتى الصغير وكانت قارئة الكف وهيبة قد عادت في هذه اللحظات القاتمة وأبدت حزنا كبيرا مثلي على موضوع سفر صديقتها حين علمت، ولكن لِمَ اختفت هكذا وأين كانت ثم عادت؟ سؤال كبير ظل يؤرقني، سؤال يلجمني، هل يا ترى لن أرى ربيعتي بعد اليوم؟ سألت نفسي وقلت: تبا لك يا ميدوب! ما هذه المصيبة التي رميتها في طريقي؟! وقبل أن نبارح المكان أخرجت وهيبة تمرتين من كيس كانت تحمله وقرأت فيه بسرها تمتمات غير مفهومة، ناولتني واحدة والثانية لربيعة، ونظرت ربيعة إلى وهيبة وسألتها، هل هي نفس نوع التمرات التي أكلتها سابقا، ردت وهيبة: نعم نعم، ثم التفت ربيعة إلي وقالت لي: لقد أكلت نصيبي وهذا نصيبك ولا أخفي أنني كنت متوجسا وقلقا جدا، أما ربيعة فقد وضعت نصيبي في فمي وهي تقول: إلى الأبد معا يا حبيبي في السراء والضراء، سأحاول أن أعود إليك، إن لم أعد إليك قريبا لا تبحث عني أبداً؛ لأن القدر قد يكون قد أراد لنا الفراق، ثم تابعت تقول لو كان لي حظ في السعادة والحياة سأقطع البراري من أجلك، وإن لم أستطع الوصول إليك سأعتبر أن حياتي قد انتهت. كم راقت لي كلمة حبيبي وكم أغاظني الشطر الثاني من الكلام حين قالت: قد لا أعود، اختلطت المشاعر الموجبة والسالبة في خاطري، وأحيط جدار قلبي بكم هائل من الهواجس المريرة، قالت ربيعة وهي تنظر إلي وتضع يديها على كتفي: الحب يا سيدي سلطان يزين أريكة الإمبراطور، وظل يحنو لمسار الراعي، وسماء تمطر لتسقي الأرض البكر، ولحن يموسق قالب قافية شرودة يؤلفها شاعر مبتدئ، وسكتت وهي تنظر إلي بحنو بالغ، استمتعت كثيرا بكلامها، ذهلتُ حتى ارتويتُ وأنا أسمع تلك الكلمات المتشابكة من أحلى فم في خارطة النساء فإن كانت النخلة الخالدة تثمر الكثير من التمر، فربيعتي تثمر في كل مواسم السنة وعندما أتمت ربيعة كلامها كنت قد استمتعت كثيرا وسرحت بخيالي فرأيت صورة الملكة ووجه ربيعة ومن خلفهما وقف ميدوب مذعورا يمسك بيدي وهيبة والنخلة الخالدة تظللهما، تهت وأنا مغمض العينين في متاهات الخيال السارح في أقبية الجنون، نظرت إلى عيني ربيعة اللتين تبدوان لي غامضين وحالمتين، وتراءى لي طيفها وهي تطير بجناحين عبر الفضاء الممتد إلى الشمال. رأيت السحب والثلوج وجبالا من الجليد، ورجالا شقرا ونساء شقراوات وعيونا خضرا، وكأنني مربوط بشيء ما خارج النطاق الزماني والمكاني في منطقة وسطى بين النجوم البعيدة، والقدر يناديني كأنها ومضات من جبين الشمس، ويكتب اسمي في كف العفاريت السارحة في اللا منتهى، ومنذ تلك اللحظات المجنونة سكنت روح ربيعة في دواخلي بأسماء مختلفة وبأشكال مختلفة أيضا، في الليل والنهار والحركة والسكون والحزن والفرح وأشياء أخرى، ستجدها في رحلتي مع الأيام، مع اختلاف الزمان والمكان، اختفت الجميلة مع السيارات الذاهبة إلى وادي السليم، وعند سفرها رأيت ابن عمها واقفا وهو حزين مع المودعين وسمعته يقول لها بعد انتهاء موسم الحصاد سأنتقل للعمل في مزرعة طرفية وقال لها أيضا لقد وجدت عملا هناك ومع تجرعي لمرارة الفراق وقسوته وشرود الخيال فكرت في اللحاق بها وفكرت في التمرتين، وفي كلام أبي والنخلة الخالدة وصورة ميدوب وصورة وهيبة وددت لو أذهب إلى هناك واستقي من النخلة فهم ما سيكون وما ستؤول إليه الأمور في أمر حبي ولكن ثمة عارض منعني، ومر بخاطري كلام أبي، وهو يحثني على الجد والفلاح، والحذر الشديد من أمر النخلة الخالدة.
وكان يوصيني دوما يا بني ستبقى عمرك كله مجرد أرقام من الأيام إن لم تستطع أن تفعل ما كان واجبا عليك تحقيقه، وذهبت صوب الجبل لأروي له إحباطي فهناك مستودع الأسرار والذي مرّ بجواره أعظم الرواة، هناك وقف ذات يوم خليل فرح صاحب عزة في هواك وكتب ملحمته الخالدة (عزة في هواك) وهناك وقف أيضا سيد تلول جحا النوبة وألهب أسماعنا وأسماع من سبقونا بنكات خالدات وسرحت بخيالي أتأمل النيل الذي يجري وأخذتني اللوعة لقبر أجدادي ولكني عدت ثانية لأبدأ رحلة الحياة.
في طريق عودتي قابلت حسن وقال لي مازحا لو كانت الجبال تختزن صوت آلام العشاق لنطقت به، وتابع حسن يقول لي: لكن لا بأس زر النيل يا صديقي وأفرغ في ضفافه ملح الكلام كلما اشتدت لواعج الذكرى لحبيبتك الجميلة، وتمدد في أجوائها بما شئت من شعر ونثر فهو أشهر متاحف الهوى.
في ذات مساء وبعد شهور عديدة من سفر ربيعة، اجتمعنا نحن أبناء القرية لأول مرة منذ شهور طويلة لنتناقش في أمورنا الخاصة، دعوتُهم أنا شخصيا لمأدبة عشاء وأحضرت خروفا من حظيرة أغنامنا وكلفت صديقي حسن جمعة ليقوم بواجب الطبخ والضيافة ومعه عدد من الشباب. دعوت حوالي خمسة وعشرين شخصا من شباب القرية كنت أريد أن أستشيرهم في إمكانية ذهابهم معي لقرية ربيعة، في زفّة كبرى تليق بفارس كوشي أصيل، وذلك لخطبتها من أهلها، ولكي أعبر لهم بالتحام واصطفاف كل هؤلاء من حولي ولأبين لهم أيضا أهميتي كابن مشائخ ونوبي أصيل تجري في عروقه الدماء الملكية، دماء ملوك كوش العظماء. وعليهم أن يعرفوا أنني فارس كوشي يحق لي أن أتزوج ممّن اخترت. وأن أسرة ربيعة يجب أن تنصاع لشروطي وإلا فإن الفيضان قادم والطوفان آت، وإيمانا مني بأن أجعل تلك الليلة مميزة وساحرة، أحضرت لهم سلفا بعضا من خمرة حاكمين النقية، وحاكمين هذه قرية نوبية بجوار قريتي مولن إيركي امتازت بجودة بلح الجاو المادة الأساسية لعرق البلح، من تلك الخمرة المعدة سلفا من بلح الجاو الأصيل، ونما إلى مسامعي أن هذه الخمرة كانت تُطعم في السابق بتمرة واحدة من الشجرة الخالدة لا أدري لماذا قالوا هكذا وما صحة ما سمعت، أحيانا يطلق بعض الناس كلمات تظل خالدة رغم افتقادها للمصداقية التاريخية، لا أدري لماذا ولكن الذي أعرفه أنه عندما أحتسي كوبا واحداً أو قدحا صغيرا يأتيني شيطان الشعر وأبدع وأغني للنيل، وأعاود أيام ربيعة الساحرة، في ذلك الليل الفخيم ، والبدر في تمامه، شهدت القرية واحدة من لياليها الخالدات . شرب الجميع حتى سكروا وأكلوا حتى شبعوا، كنت معهم مستمتعا بلحظات لا تنسى. طلبت من حسن جمعة أن يغني لنا، ابتسم حسن وأخذ الطمبور ووزنه وهو يوجه نظره صوب الجميع كأنه يريد أن يعرف مدى استعدادنا للاستماع إليه، تبادلنا الابتسامات فأوحيت له بتمام الرضا، بعد أن اطمأن على الجميع بدأ ينثر مرح اللحظات وها هو يغني:
باسمك أيها النيل العظيم رطنّا
وباسم حفيد ملوك كوش التقينا
وباسم الكنداكات الجميلات تتفتح أبواب السماء
لتهب لنا طراوة الصلاح اللذيذة
فدا لك يا أيتها النخلة السامقة
المنتجة لتمر الجاو
لولاك يا تمر الجاو
لما شربنا خمرة حاكمين النقية
(وهي خمر كوش الأولى من بلح الجاو الحاكمينى الأصيل) كما قلت لكم، اخلطها يا صديقي بتمرتين فقط من ثمار النخلة الخالدة وتناولها مساء وستسعد الليلة كلها. (طراوة الصلاح رياح باردة تأتي في فصل الشتاء من الصحراء النوبية)
ذات مساء وأنا تائه في مغارة الشوق وحبي الجميل لفتاتي الساحرة ربيعة وبعد أن أويت إلى السرير وحملني سلطان النوم، حلمت بأن ربيعة قد جاءت وجلست بجانبي وحكت لي ما يلي: اسمعني جيدا يا حبيبي عبد المعين هنالك شيء لابد أن تعرفه وهو أن وهيبة التي قابلتها معي في ذلك اليوم تعيش قصة حب كبيرة مع صديقك حسن جمعة وأنها قد عرفت بذلك منذ زمان وأن وهيبة أتت إلى منطقتنا في أحد المواسم ونزلت في قرية دفي (وهي قرية محسية متاخمة لمنطقة السكوت من ناحية الجنوب)، (هذه الرواية طبعا تناقض تلك التي سمعتها عن أصل وهيبة).
ولكنني لم أكن مستعدا أن أقول لها شيئا لأنني لا أدري أين تكمن الحقيقة وذلك لأن بعض العادات في منطقتنا سيئة والكذب وتحريف الكلام وإلصاق التهم جزافا شيء مرعب، المهم في الأمر أنها ذكرتني بتلك العلاقة بين وهيبة وحسن، وقد لا تعلم ربيعة أنني أعرف علاقة حسن بوهيبة منذ زمن ليس بقريب وكنت أعلم أيضا تلك الأحداث المأساوية التي انتهت عليها حياة والد وهيبة لكن ربيعة أردفت تقول إنه من الطبيعي حسب مواريث مجتمعنا أن يكون العريس لبنات المنطقة من نفس القبيلة وأنت أدرى مني يا حبيبي. ولقد حكت ربيعة تلك القصة الطويلة والتي أعرف تفاصيلها جيدا والتي حصلت قبل فترة والقصة في مجملها تتلخص في الآتي.
من المعروف أن حبا كبيرا كان يربط بين هذين العاشقين كما يعلم الجميع وذات يوم تقدم حسن لخطبتها، إلا أن أعمام وهيبة رفضوا هذا الأمر رفضا قاطعا، واعتبروه عارا ما بعده عار، خاصة أن اثنين من أبنائهم مستعدان تماما للزواج من وهيبة وأكثر من أربعة آخرين منهم كانوا في سن الزواج أيضا.
كان والد وهيبة رجلا مثقفا وطيبا ومحبا لابنته الوحيدة، لم يكن ليرفض لها طلبا كما كان بإمكانه معارضة العائلة بأكملها مخاصما لهم من أجل إرضاء ابنته، لكنه حاول أن يقنع ابنته في بادئ الأمر تماشيا مع التقاليد القبلية ليوضح لها أن أمر زواجها أو مجرد خطبتها لشاب غريب لا ينتمي إلى قبيلتهم على الأقل ناهيك عن عدم انتمائه للأسرة سيجلب لهم الكثير من المتاعب وربما تحصل مقاطعة شاملة من الأهل، ما أن فاتح وهيبة بالأمر حتى جلست وهيبة على ركبتيها وبدأت تتوسل إلى والدها وتقول له: إنها تحب حسن وإن رباط الحب المقدس شأن لا يمكن التغاضي عنه وأنها لا تلتفت إلى تلك التقاليد البالية في أمر يخص حياتها، ولا يمكنها أن ترضى بغيره، وكانت تعتقد جازمة أن ظروف عائلتها من حيث الانتماء والترابط بالبلد لا تختلف كثيرا عن ظروف عائلة حسن جمعة وربما عائلة حسن جمعة لم تكن لها تلك الامتدادات التي حصلت مع عائلة وهيبة لأن عائلة وهيبة كلها قد أتت واستقرت مع بعضها البعض في أرض كوش وترى وهيبة أن مجرد محاولاتهم لثنيها سوف تحطمها، وتزيد من متاعبها الصحية وخاصة أنها كانت فتاة نحيلة الجسد وقد مرت بكثير من الظروف الصحية القاسية في طفولتها الباكرة قبل أن تتطور وتصبح فتاة جميلة بالشكل الذي نراه اليوم.
دخل والدها في صراع نفسي كبير بين أمرين لا ثالث لهما، أما أن يقبل ويكسب ود ابنته وراحة البال، أو أن يرفض ويكسب أهله ويحطم مستقبل ابنته وكذلك راحة نفسه الشخصية. لم يكن والد وهيبة بطبعه رجلا صبورا ولقد عرف عنه برغم طيبته الكبيرة سرعته في اتخاذ القرارات.
وذات يوم رأى ابنته حزينة في وضع يرثى له، ورق قلبه لها ولم يستطع أن يتحمل ذلك، وألجمت الهموم رأسه، سألها عن السبب وكيف له أن يساعدها، فقالت له: والدي العزيز، أريد منك أن تذهب لأعمامي وتجتمع بهم وتقول لهم: إن الزمن قد تغير وأمور الزواج أصبحت أشياء شخصية تخص الزوجين فقط، وقل لهم أيضا: إنني مصرة على المضي قدما والزواج من حسن وإنك تؤيدني وستقف معي في كل الأحوال، وهذا قرار نهائي منك ولا رجعة فيه.
كان والد وهيبة قد اقتنع تماما أن معارضته لهذه الخطبة وعدم موافقته لإتمام الزواج فيما بعد، سيأتي بأشياء كارثية، ربما تفقده ابنته الوحيدة، وقد تذهب بسعادة ومستقبل ابنته الحبيبة، ووالدٌ طيبٌ وذو مروءة كوالد وهيبة من الصعب عليه أن يحمّل نفسه مسئولية حدث كهذا وعلى امتداد منطقتنا فإن قرارات الزواج دائما ما تكون توافقية، فمجتمعنا المسالم المتوازن يحمل من قيم التكافل والمروءة المجتمعية الكثير.
نعم نعم لقد سيطرت عليه هذه الفكرة ودق الخوف جدار عقله بقوة، لم يتريث كثيرا وسرعان ما خرج مسرعا إلى حيث يجتمع الأهل في مثل ذلك الوقت.
وصادف أن حسن ينتظره خارج البيت. وقال له أبو وهيبة: اتبعني يا بني؛ لأن الأمر الذي أنا ذاهب لأجله يخصك تماما، اليوم قد تنتصر العدالة أو تُذبح، وإن كنت أنا بنفسي غير مؤمن تماما بصواب مسعاي، لكني على درب القلب أسير وعلى هدي حب أميرتي الصغيرة وهيبة إنما أعاند عقلي.
سأله حسن: إلى أين ذاهب يا عمي؟ رد عليه والد وهيبة: من غير سؤال تعال معي وستعرف إلى أين نذهب، وتبعه حسن بدون أي اعتراض، وكان يسير خلفه وهو لا يدري ما يخبئ القدر لهما، وعبر ممر طويل وسط النخيل كان يقبع بيت عم وهيبة ووجد والد وهيبة كل إخوانه هناك وكذلك أبناء إخوانه، وأبناء أخواته وعددا كبيرا من أقاربه.
خاطبهم جميعا دون أن يجلس: السلام عليكم يا أهلي وعشيرتي اسمعوني جيدا، لقد جئتكم لأمر مهم جدا، نعم نعم، أنتم أهلي ودمي ولحمي، ولكن الشيء الذي جئت من أجله شيء خطير، وإن كنتم تحبونني وتريدون لي خيرا أرجو أن توافقوا على طرحي حتى قبل أن أصارحكم بالأمر ويقيني أيها الأحباب لو أن الأمر كان بيدي لما طرحت عليكم طلبي أبداً.
خاطبه أخوه الأكبر واسمه شمس الدين: يا أبا وهيبة، ليس هناك شيء مستحيل ولكن من باب اللباقة يجب أن نعرف ما الأمر، وقال له: يا أخي الحبيب لو وافقنا سلفا وقلتَ لنا: أنا كبش فاذبحوني. هل سنوافق على طلبك؟ ضحك الجميع وقالوا له: اجلس. جلس أبو وهيبة وتناول قدحين من الشاي مع بعض التمر، وخاطبه أخوه الثاني بدر الدين، كأنه كان يعرف شيئا عن الأمر، إن كان الأمر الذي جئت من أجله يناقض تقاليد وأعراف القبيلة فمن الصعب أن نوافقك الرأي. غير ذلك ما الذي يجعلنا نعارض أخانا؟ قال هذه العبارة الأخيرة وهو ينظر إلى الحاضرين من عشيرته جميعا، وحرك الجميع رؤوسهم موافقين ولكن بتوجس كبير، لم يدعهم أبو وهيبة يسرحون بخيالهم وقال مخاطبا إياهم: الأمر يا أهلي وعشيرتي أنني نويت أن أزوج وهيبة من خارج العائلة، فهو من أبناء القرية ولكن أين تنتهي جذوره ؟ ليس معروفا، وأشار إلى حسن وذلك إرضاء لها وأنتم تعلمون من هي، إنها وهيبة ابنتي الوحيدة، وهي كل ما أملك في هذه الحياة، وكرر أريد أن ألبي رغبتها لأنني لا أريد أن تلومني وتحملني مسئولية فشل حياتها المستقبلية إن عارضت مسعاها وأرغمتها على الزواج دون رغبتها وأنتم تعلمون أنني لا أملك غيرها.
أرجو منكم أن تقفوا بجانبي هذه المرة؛ لأن حالها لا يسر مسلما. وكان حسن يقف صامتا لكنه كان متماسكا أو هكذا كان يبدو لمن ينظر إليه.
إن هؤلاء الرجال وأبناءهم من عائلة وهيبة تبدو على تقاسيم وجوههم الصرامة والقسوة وشظف الحياة أيضا، وقف كبيرهم وقال مخاطبا أبا وهيبة وتارة ينظر إلى حسن ملوحا بعصاه والشرر يتطاير من عينيه، والناس من حوله في صمت مهيب. من أين أتيت بهذا الأبله يا أخي؟ هل انعدم الشباب أصحاب الشوارب من عائلتنا؟ ونظر إلى الجميع كأنه أراد أن يستميلهم وقال له والد وهيبة: نعم نعم هو حسن، إنه شخص طيب ورائع لكنه سكن قريتنا مع والدته، هذا كل ما نعرفه عنه، أما من هو أبوه ومن أين جاء أصلا، وكيف أتى إلى هنا؟ فهذا ما لا أعرفه ربما هو محسي من يدري؟ وربما من قبيلة أخرى تجاورنا.
هههه ضحك جميع الحضور تقريبا، كأنهم كانوا يتوقعون ما قاله والد وهيبة، لكن الرجل (أعني والد وهيبة) كان وفيا لمبادئه وصريحا مع نفسه، وكان حافظا لأمانة الأبوة الحقة، وكان يملك حبا صادقا لابنته، وكيف لا؟ فالأمم كلها تقدس الابنة الوحيدة. قال أخوه بدر الدين: يا أخي يا والد وهيبة بالله عليك بحق السماء إن كان محسيا فمن أين له كل هذه الشلوخ؟ رد عليه أبو وهيبة وهو يلتفت إلى حيث يقف حسن، وقال مخاطبا إياه رد عليهم يا حسن، بيّن لهم أصلك وفصلك. إن القبائل دائما ما تسأل عن الأصول في مثل هذه الظروف، وأنا لا أريد أن أخاصمهم في شيء أصيل.
وقف حسن لأول مرة وهو يرمقهم بنظرات تحد واضحة، لن أجيب عن تساؤلاتكم ولا يهمني رأيكم في؛ لأن الأحرار دائما ما تؤلمهم مثل هذه الملاحظات والتدخلات غير العصرية والتي تفتقد إلى المنطق السليم، ولا تستند لأية اعتبارات أخلاقية ولا شرعية، إن الأمور القبلية والتغني بها ذهبت أيام امرئ القيس وعنترة وأيام المعلقات السبع فأمريكا العظمى بكل جبروتها ما هي إلا نتاج الهجرات المتعاقبة على مر الأزمان، فهي كوكتيل جميل لبني البشر من كل جنس. وأنتم يا سادة ما زلتم تتحدثون بلغة:
ونشرب إن وردنا الماء صفوا ويشرب غيرنا كدرا وطينا
الرجال الحقيقيون يقدسون أصولهم وأنا منهم، بما أنه ليس هناك أصل سيئ في هذا العالم وكلنا خلق الله، قال هكذا كأنه يلوم نفسه، السيئ هنا أنني ربما أوقعني الحظ مع مجتمع مضطرب فاقد للبوصلة الحياتية، فاقد لطرق الحرية والعدالة الاجتماعية، ولكن من يراه يظن أن الرجل محتار في هذا الأمر ولم يجد اقتناعا داخليا حتى من سويداء قلبه، لكن الحقيقة أنه كان يقف بثبات واضح، وسرعان ما واصل كلامه وقال لهم: أولا أريد أن أبين لكم أنني أعرف أصول جميع العوائل الراسخة هنا وأعرف من أنتم ومنذ متى حللتم بهذه الديار ولو كنتم تظنون أنني غريب عن المنطقة فكلنا في الهم شرق ولكن على أية حال سأحكي لكم عن أصلي وفصلي، كنت لا أريد أن أقولها لكم، لكني الآن سأحكي وبكل الرضا والسرور أنا الآن في قمة مرحي وعليكم أن تنصتوا إلي ولا تقاطعوني أبدا، أنا يا سادتي من أبويين مختلفي العرق، كأنهما ضفتا الأطلسي، شتان ما بينهما، أنا الشرق والغرب يلتقيان، أنا الأبيض والأسود ينسجمان وأنا الفقر والغني يتعانقان، أنا الدواء الناجع لفيروس العنصرية القاتل، سمني ما شئت يا سامعي.
لكني أنا النور الذي سيضئ ظلاميات عقولكم المهترئة إن أراد الله لكم خيرا وواصل كلامه بل خطبته العصماء إن جاز التعبير لي لوصفها.
أمي من فلاليح النوبة والمعروف أن هؤلاء الفلاليح وهم بيض البشرة من بقايا الاستعمار، وليسوا سمرا مثلكم يا أهل كوش وبعض الروايات تقول إنهم أتوا من بولندا وتسميتهم بولنداب، أو دولة المجر وتسميتهم مجراب، أو ربما تعود أصولهم كما تقول رواية أخرى من بقايا شركس استوطنت مصر وزحفت جنوبا طمعا في سن الفيل والذهب ومزارع الصمغ العربي في غرب السودان، ووالدي من قبيلة الشُّلُك الإفريقية المعروفة (الشُّلُك يا ساداتي قبيلة أصيلة تحمل صفات جينية متوارثة منذ أكثر من سبعة آلاف عام) لم يختلطوا أبدا مع العرب أو الإنجليز ولا حتى مع قبيلة الدينكا المجاورة فهم أناس طوال القامة ويمتازون ببنية جسمانية قوية ولا تخلو وجوههم من وسامة ظاهرة وشعر أجعد تماما.
وإن رجعت إلى نفسي فستجدني قد أخذت بعضا من ملامح والدتي وبعضا من ملامح والدي إلا أنني أعتز بقبيلة والدي وهو شلكاوي أصيل وابن القارة البكر إفريقيا العظيمة، موطن الإنسان الأول على كوكب الأرض. أقول لكم: إنه في عروقي تجري الدماء الإفريقية الحارة، وتختلط قليلا مع دماء الإنسان الأبيض أو الأصفر ووالدي بالذات ابن رث للشلك كان له مقام وجاه، كان طيبا وكريما وأصيلا، احترمه الجميع وتزوج من تسعين امرأة وأنجب أكثر من مائة وخمسين ولدا وبنتا، كان ترتيب والدي الخامس والثلاثين ويا له من رقم بعيد في التراتيبية الوراثية لرث الشلك! ليس معروفا لماذا اختلق حسن هذا الكلام، لكنه قال فيما بعد إنه أراد أن يختبرهم ويختبر وهيبة أيضا، لأن في اعتقاده أنها لو كانت تحبه حقا فإنها كانت ستقف بقوة بجانبه وإلا فليس هناك أي داع من الارتباط من فتاة لا تحبه لشخصه، أصيب الجميع بالصدمة الشديدة بعد أن سمعوا أو استمتعوا بهذه الخطبة البليغة التي ألقاها حسن، لكنهم كعادتهم تجاهلوا -أو تظاهروا بمعنى أدق- محدثهم حسن وقالوا: يا أبا وهيبة، إن كنت تريد لنا ولكم خيرا، دعه يذهب من هنا بسرعة ولا تجعلنا نقبض على هذا الغريب، وإن قبضنا عليه أنت تعرف جيدا أننا سنقتله في الحال، وسندخل في مشاكل كثيرة لاحول لنا بها ولا قوة، لذا اخرج من هنا وبسرعة قال أحد المهووسين بأصله وهو يخاطب حسن والجميع أثنى على كلامه بصوت واحد. ولكن أبو وهيبة أراد أن يقول لهم، إن حسن يهرج وليس لكلامه أية مصداقية فهو من قبيلة الشايقية على أبعد مدى لكنه ربما أراد أن يختبركم ولكن لا أحد كان مستعد لسماع ما قاله والد وهيبة.
وفي معمعة الصراخ من هنا وهناك أصيب أبو وهيبة بتشنجات متواصلة وحمى وهياج وبكاء وعويل، وسرعان ما غاب بعدها عن الوعي. ووقع مغشيا عليه.
حدث هرج ومرج وذهول وصدمة ونوع من الخوف والارتباك، لكنهم في النهاية تحاملوا على فزعهم وخوفهم وحملوه إلى مستشفى قريب وبينما كان الأطباء يفحصونه ويحركون يديه يمينا ويسارا، لفظ الرجل أنفاسه الأخيرة.
كان حسن يقف معهم حتى آخر لحظة ولكنه حينما علم بموت والد وهيبة خاف على نفسه وخوفا حماقة ربما يرتكبها شخص بائس من قوم محبوبته، غاب عن الأنظار وكأنّ الأرض قد انشقت وابتلعته فلم يجد له أحدٌ أثرا بعد ذلك.
حمل أهل وهيبة جثمان والدها إلى بيته من المستشفى وهم في ذهول تام ممّا حدث والدهشة تكسو وجوههم وفي القرية تأخذ مثل هذه الأخبار مسار الريح فانتشر الخبر انتشار النار في الهشيم وعم حزن عارم أرجاء القرية والقرى المجاورة وتأثر الناس كثيرا لرحيل ذلك الرجل الطيب وتكلم الناس كثيرا عن كرامات حصلت لحظة وفاته وحلف أحدهم باليمين أن الملائكة قد كفّنته وحملته معها وأنّ طيورا كثيرة كانت تظلل جنازته حتى المقبرة.
جاء الناس من كل حدب وصوب وشيعوه واصطف حوالي ثلاثة آلاف شخص خلف جثمانه مؤدين صلاة الجنازة.
بعد أيام من ذاك الحدث الجلل. أفاقت وهيبة على صدمة أخرى ألا وهي صدمة اختفاء حسن وتقاعسه عن القيام بواجباته أيام الوفاة وتحمل مسئولياته كرجل قوي يُرجى منه وقت الملمات حتى يستحق أن يكون زوجا مستقبليا لها. وعودا راسخا تعلق عليه هموم حياتها وتضاريسها.
لقد انكسرت وهيبة في خاطرها وأصيبت في كبريائها، كيف لرجل تحدتْ العالم من أجل الزواج به وغامرت من أجله بسمعتها وسمعة العائلة يوم قبلت به رغم رفض الجميع له وهو الغريب عن هذه المنطقة ليس بحكم المولد بل بالانتماء للجذور والتاريخ أن يفعل بها هكذا وتخيلت والدها ولحظات الحزن الرهيبة التي أعقبت وفاته وكانت تؤنب ضميرها وتحمل نفسها المسئولية كاملة بعد أن اندفعت وراء رجل غريب يفتقد إلى النبل والشهامة والرجولة والتصرف السليم، رجل ترك حبيبته في ذورة حاجتها له. لقد فكرت وهيبة في هذه العلاقة التي سببت لها كل هذه المصائب، وها هو طيف والدها لا يفارق خيالها، وكلّما اشتاقت إلى صوت والدها وحنان قلبه، أحست بالغضب تجاه حبيبها.
جلست وهيبة تفكر في الأمر، وحان وقت صلاة العشاء فقامت وصلت أربع ركعات وتلتها بثلاث وأقسمت بالشفع والوتر أن تأخذ حقها وحق أبيها كاملا من حسن، إذ اعتبرته من ذلك اليوم عدوها الأول. كان ذلك قبل وقت من لقائي بها وذلك برفقة صاحبتها ربيعة الكاهلية.
كنت أعرف أن حسن كان قد تقدم لخطبة وهيبة ورفض طلبه من أهل البنت ولكني لم أكن أعرف كل هذه التفاصيل، وقالت ربيعة: إن وهيبة عادت إلى حبها حسن ربما لتنتقم منه أو لشيء لا نعلمه وأردفت تقول: إنها تعامل حسن الآن بحب ظاهري، كأن شيئا لم يحدث فبعد عام تقريبا من ذلك التاريخ، حصل شيء غير مجرى حياتي تماما.
كنتُ قد بلغتُ السنة التاسعة عشرة من عمري وعندها ساقتني الظروف أن أكون ضمن كوكبة من أبناء وطني والذين وقع عليهم الاختيار للدراسة في روسيا، وقبل سفري بيوم واحد جاءت وهيبة وهي تحمل قيراطا من البلح في دلو مائي، وأهدتني إياه، قلت لها: أ أنت تهدينني بلحا؟ يا للمفارقة! وأنا صاحب الساقية وسليل النخلات، قالت: تذكر كلامي جيدا، هذا ليس تمرا فقط، هذا طوق نجاة لك عند الملمات الكبيرة، فتمرتان ستكفيانك وتغنيانك من أشياء كثيرة لقد أكلتهما قبلا، إنها تمرة الشجرة الخالدة نخلة تحكي الأسطورة أنها من عهد بعانخي ملك النوبة العظيم كما أوردت لكم كثيرا في غير هذا المكان.
هل دلوك مسحور يا وهيبة؟ سألتها، قالت وهي تبتسم: سمّه ما شئت، فلتسمه مثلا القدح المسحور، ذلك ليس مهما ولكن هنالك جني قد سيأتي بعدك إلي هنالك إنه حسن صديقك وسارق قلبي وقاتله، أتوقع بل أجزم أن الأقدار ستقابلك به هناك أيضا، ولكن أسألك بكل معاني الشرف والطيبة والجمال التي تؤمن بها، أن تعطي حسن تمرتين يوم أن تقابله، وقالت في سرها بعد أن يتناولهما سيكون كل ما يأكله من التمر مسحورا، لأنني عزمت أمري أن أخدمه خدمة جليلة، وانتبهت وهيبة بأنه صديقي وقالت لي وأنا بدوري لن أخفي عليك أنني نذرت حياتي من أجل إسعاده وابتسمت ابتسامة ماكرة ومع الأيام سيتضح لك كل شيء انس أمره الآن وحسبي أن اقول لك إنه إذا دارت بك الأيام وقدر لك أن تقابل ربيعة، فستكشف لك السر، ولم تكن تدري حينها أن ربيعة قد أسرت لي في منامي وقالت أيضا تأكد أن هذا الدلو بما فيه سيكون ذا فائدة عظيمة لك، إنه مفتاح ديجون ستفتح به كل شيء استعصى عليك فتحه، أو عصا موسى أو خاتم سليمان، لم تمهلني أن أسألها أكثر، وغابت وهيبة عن ناظري في لمحة بصر. لم أكن مستعدا للبحث عنها، لأني ببساطة تخيلتها هرطقات امرأة مجنونة وساحرة بائسة، وقلت: تبا لها وتبا لحسن! ما لي أنا أشغل نفسي بمشاكلهما، وقلت إن مشاكلي تكفيني وأكثر وتذكرت جميلتي ربيعة وقلت حتى أنت يا وهيبة قد أجد فيك بعض الخير لأنك أهديتني بعض الذكريات .
جلست وهيبة في بيتها وأتاها ميدوب وتذكرتْ كل ما فعل حسن بها واسترجعت الأحداث وقالت في نفسها: ها هي معي روح ميدوب اللعينة وغدا ستعلم ماذا ستفعل بك الأيام يا حسن. إن الأرواح تتلاقح في دفتر هذا الميت الحي و يا لها من إثارة! وحسبي أن أقول لكم إنها قصة حب رائعة جدا، تلك التي ربطت وهيبة بحسن جمعة، قبل أن يفسد عليهما موت والد وهيبة، كانا يلتقيان عند وادي الجن خلف الجبل الكبير فكم جميلة تلك المنطقة الساحرة عند الغروب. كان من عادة حسن جمعة الذهاب باكرا والكتابة والرسم أحياناً في تلك الصخور، كلمات من الوجد وآيات من الغرام وكانت وهيبة تنصحه دائما أن لا يكتب شيئا، لأنها كانت تؤمن أن الجن وحده يسيطر على ذلك الوادي وكانت تقول إن الجن يمكنه سرقة أشعاره وأحلامه وكل شيء يخصه. وربما يسرقها هي ذاتها من حسن.
لم يكن حسن من أولئك الرجال الذين يؤمنون بالخرافات. كان يملك من العقل والشجاعة ما يكفي والدليل على ذلك أنه لم يدخل ويتبرك في تلك القباب أبداً ولم يؤمن بوجود الشيخ علي صاحب القبة الشهيرة أبدا، إنه كان تقدميا في رؤاه كما وصفه ذات يوم صديق مشترك بيننا.
ولم يسأل يوما عن أمر الشيخ ولم يطلب منه يوما أن يمنحه تلك القوة المطلوبة مثل الكثير من الخلق في تلك البيئة المسحورة، ولكنه كان مهتما بإمتاع نفسه أيما إمتاع، بل كان يرتجل كلمات مقفّاة دوما عندما يحتسي قدحين من خمرة حاكمين النقية المعتقة والتي تسمى أيضا خمرة كوش.
وقف ذات يوم مخمورا بجانب القبة بصحبة وهيبة وذلك قبل موعد سفره بأيام وكان جمع غفير من الناس أتوا لزيارة الشيخ لكنه لم يكن مهتما أبداً بنظرة الناس إليه. وذلك أنه كان مؤمنا حقا بصحة رأيه حول القباب عامة وقبة الشيخ علي خاصة
وإليكم ما قاله:
أيها الشيخ العجيب
القابع في الضريح المجهول
أيتها العظام المهترئة
أيتها الروح البائسة
أيتها الرميمات البوالي
أنا حسون وقاله عن نفسه تحببا
أنا حسون أسد البراري وتمساح الجزيرة
الذي لا يؤمن بالخزعبلات
أنا واثق أنك لا شيء
وقد تكون مهرجا
وقد تكون مسطولا ومخرفا
وقد تكون أكذوبة كبرى
وقد يكون الضريح لجثة خيل من عصر بعانخي
أو من خيول الأجداد
كيف لا
إنهم كانوا يقدسون الخيول
و بعانخي نفسه قاد معركة ضد الفراعنة
لأن المصريين أساءوا للخيول
هزمهم وحكمهم هو ومن أتى بعده من ملوك وهم من أبنائه وأحفاده أكثر من ثلاثمائة وخمسين عاما أو يزيد ولكن كل هذا سهل، فالمصيبة أن تخرج لنا -وكان حسن يخاطب الضريح- عظاما لحمار أعرج أو بقايا كلب مات مسموما. أو ضفدعة محنطة.
كانت وهيبة تنصت إليه وهي ترتجف، وقالت له: اسكت يا حبيبي، أخاف عليك من لعنة القباب فاثنان يجب أن تخاف منهما قبة الشيخ والثقب الذي تحت النخلة الخالدة، وقف حسن ونظر ثانية ناحية القبة، ربما شعر ببعض الذنب أو التراجع قليلا، ربما لأنه مخمور، ولكن تلك ليست عادته، لكنه على أية حال كان مؤمنا باعتقاداته، وإنه مازال يحفظ ما قاله ثائر كوشي قديم في مدح القبة:
لسالف الأزمان تاريخ عريق
يحكي لنا عن حال كوش في الماضي السحيق
في حقبة كانت مقيدة الدروب
والعالم الأمي في جهل مريب
في حقبة كانت مقيدة الدروب
كانت لنا في أرضنا أعظم حضارات الجدود
كانت لنا في دفتر الماضي التليد
وعي وسلطان ويد من حديد
أسألكم يا ساداتي ووجه كلامه للزوار
أين العقول الواعيات؟
أين الأصالة والفحولة والثبات؟
وقال بصوت خفيض: وهو ينظر ناحية الضريح، قد تكون القبة لملك كوشي قديم، معذرة لك حبيبتي اتجه بنظره صوب وهيبة، قد أعود غدا إلى هذه القبة لنرى ماذا فيها، في الماضي كلمت أهلك وفشلنا وانتهى مسعاي بمصيبة وفاة والدك وربما كسبا للوقت وتناسيا للجفوة من قبل أهلك سأسافر، ولكني على العهد دوما من الزواج بك مهما طال الزمن وتناثرت الأشواك، ولكن إن وعدتني بالانتظار سأسافر مطمئنا للبحث عن عمل مناسب مع دراستي وذلك للتعجيل بأمر زواجنا وبعد سنوات سأعود وسنتزوج يا جميلتي وقد يكون أهلك قد تغيرت مفاهيمهم البالية وتطورت ذهنيتهم المريضة. ابتسمت وهيبة وقالت: دعهم يذهبون إلى الجحيم، ليس مهما رأيهم بعد الآن ولكم ما يهمني كيف ستتركني يا حبيبي؟ وفعلت كلمة حبيبي في نفسه فعل السحر، حينها تناست أمر الانتقام تماما والأخذ بثأر والدها وقالت: مخاطبة حسن ولكن إن سافرت فمن سيمنحني القوة ويسمعني كلمات الغرام؟ تلك الكلمات التي تحرك الجبال وترتقي بروحي إلى سماوات الهيام والدلع العاطفي، ومن بعدك يا ترى سيهبني أغاني الحب؟ ومن سيروي عطشي وجوعي إليك؟ من سيرمي شباكه في أُمسيات الربيع ليصطادني؟ سيجف النهر في عيني وكل منابع الغرام، لن تُزهر الشطآن بعد اليوم، يا حبيبي، واجعل حبال الوصل ممدودة، وربّما سيغنينا الله من فضله بمال وفير دون أن تسافر يا حبيبي، من يدري؟ كم من معدم صار غنيا وكم من عقيم نال بركات الشيخ وأنجب البنات والبنين بعد أن عجز أساطين الطب في مساعدته؟ كم من مريض وأبرص شفاه شيخ مغمور؟ لا تنس يا جميلي أن لبعض المشائخ بركات من عند الله (أولئك هم أولياء الله الصالحون إنهم يدعون ربهم بنقاء والذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) أحقا ما أقول. ولقد منحهم الله طاعته فيعبدونه بصفاء وعليه فقد استحقوا مكافأة السماء، هم جند الله الذين اصطفاهم ببعض القوى الخارقة في نظر البشر، ومنحهم أيضا فاصلا وقدرا من الأماني التي لطالما رددوها ليعم البشرية ذلك الفرح الطاغي والمطلوب لمداواة الجراح عند الشدائد، سكت حسن قليلا وقال لمحبوبته:
يا ساكنة في قلبي الولوف
يا زينة الروح يا عسل
كفاك هرطقة وجنونا الشيخ يا غاليتي مات منذ زمن بعيد وهو الآن من الرميمات البوالي وقد لا تكون عظامه موجودة وقد تكون روحه في مكان آخر.
لو أردت الحقيقة، سأثبت لك يا وهيبتي الساحرة البديعة الجميلة. نعم سأثبت لك ذلك حتما، سأشق الأرض شقا بفأسي ومعاولي زادي، لست خائفا من أحد، فإن كشف الحقيقة هدف نبيل. دعيني أحفر ونرى ماذا هناك، إنقاذا لملايين الخراف التي تنتظر في فسحات الزمن لتفتدي بأرواحها، وإنقاذا لمدخرات الناس التي تذهب لشيوخ الدجل والشعوذة وتغييرا لعادات قديمة ورؤى بالية نُسجت من كفن التخلف الاجتماعي.
سكت حسن كأنه أراد أن يجس نبض حبيبته وكان ينظر إليها وكانت وهيبة تسمعه حتى انتهى من كلامه، وسألته ماذا قلت يا حسن؟؟ أتريد أن تحفر قبر الشيخ؟ يا له من جنون! إذا فعلت ما قلته فلن تنام على الجهة التي تريحك بعد اليوم، ستصيبنا اللعنة الأبدية، إن حياتك ستتحول إلى وصلات من الخوف والقلق والانغلاق تماما.
تأثر حسن كثيرا بكلامها أو هكذا كان يُظهر أو ربما خاف عليها من الصدمة وقال لها: تأكدي لن أخطو خطوة واحدة دون استشارتك. سأعلمك قبل أية خطوة سأتخذها يا وهيبة أنت حياتي وفجر أحلامي وبداياتي في بحر الحب ونهاياتي في أتونه، أنت يا وهيبة خلاصة دفق العطر، وكل شرايين قلبي تضخ من قلبك وتصب في قلبي كل الحب، كان الوقت قد سرق الحبيبين.
حلّ الظلام لكن الفجر ما زال معرشا على قلبيهما بضوء الصباح (ومن يعرش الحب قلبه لا يعترف بولوج الليل).
ذهبت وهيبة كما قلت لكم وتبعها حسن، كل إلى بيته، لكنَ هاجسا غريبا قد ألمح لحسن أن يعود فورا إلى ضريح الشيخ، نعم نعم يمكنني القول إن حسن لم يتمكن من مقاومة نزعاته في معرفة ماذا بداخل ذلك القبر، وكان يدور في رأسه: أن ذاك الضريح ليس فيه شيء وخطر له أن يتصل بوهيبة ليكلمها وفعلا اتصل بها وقال لها أنا ذاهب الآن يا حبيبتي لأحفر القبر، ردت وهيبة بتشنج واضح، لا لا يا حبيبي، لا تفعل أرجوك، أتوسل إليك لا تذهب إلى هناك وجلست المسكينة وقالت: أنا في الأرض تماما جاثية على ركبتي يا حسن.
لكن حسن لم يكن على استعداد ليستمع إلى أحد، كان قرار حسن حاسما ولا رجعة فيه، إن الكوشيين الأقحاح غالبا ما يتمسكون برأيهم حتى النهاية، قال حسن مخاطبا نفسه بصوت عال وهو يضحك على أية حال أنت لست كوشيا بل شلكاويا أصيلا وبدأ يضحك وتذكر كذبته في ذلك اليوم يوم مات والد حبيبته وتأثر أيضا.
غضبت وهيبة غضبا عظيما ورمت السماعة في وجهه، سكت حسن قليلا وقال بصوت عال: تبا لك أيتها الحمقاء أنت مثل أهلك تماما فالأفعى لاتلد أرنبا وبعد ذلك ذهب حسن إلى بيت وهيبة وحاول ملاطفتها، إلا أنها كانت قد اتخذت قرارا صارما وموضوعيا بالابتعاد عنه، ورأت أن حسن يخونها للمرة الثانية وأنه لو كان يحبها لما فعل هذا بها. كانت وهيبة حزينة جدا ونامت على هذا الحال. جاءها ميدوب اللعين في منامها وبشرها بحب آخر وجميل يغير مجرى حياتها إلى الأبد.
رأت في منامها النيل ممتدا شرقا وغربا ورأت أيضا رجلا فارعا طويلا وأبيض يفرش يديه على طول النيل وعرضه، وكان هذا الكائن الخارق يلوح لها بيديه ويقول لها: يا جنتي. أنت لي وليس لذلك المخبول، إنما الحب كله رهن إشارة قلبك الفتي وسعادتك كلها في معيتي ومستقبلك معي وكان ينشد لها وهو يرقص قبل أن يختفي تماما و وهيبة مذهولة بما حصل.
نهر الغرام
يا زينة وين
يا حلوة وين
السمحة ست الحلة وين
كانت قريب فرح القليب
وجها ولوف
نوارة زي بدر التمام
ببسمة تتجمل زهور
بنظرة تتجمع سحب
ينزل مطر
تورق ورود
تزهر زهور
في لحظة برا من الزمن
رحلت وهامت في الجروف
السمحة ست الحلة وين
مثل السراب إذا سرى
خلت حياتي وما بِيا
سقت سعادتي وعقليا
مجنونة بس ست الحسان
أنا ديما كنت بسايرها
لو أذنبت بسامحها
زي شجرة في الشط البتول
أرويها بدمع العيون
لغة الشجون
بديها من لحظات سعادتي مقسمة
بالله ليه عملت كدا
وأنا كنت ديما بدلعها
أرسم جمالها وطلتها
نوارتي كانت زي ملاك
حورية زي ست البحار
عيونها زي ضوء النهار
والأنوثة مكملة
مسكين أنا
يا حليل حياتي
تأزمت
وأنا حالتي ذاتها تبدلت
نهر الغرام
يا زينة وين
السمحة قمر الحلة وين
وفي الجانب الآخر حسبي أن أوضح لكم أن حسن لم يكترث بتوسلات حبيبته، ليس هذا فحسب بل حمل معاوله وذهب إلى الضريح مباشرة وحفر الضريح كله بعمق أربعة أمتار وطول ثلاثة أمتار وعرض مترين ولجدما أدهشه أن وجد هناك سيفا ذهبيا يزن أربعة كيلوجرامات وخاتما كبيرا من الذهب الخالص وعصا من الذهب وأشياء كثيرة.
حمل حسن كل ما وجده من نفائس وذهب إلى بيته ودفنها في فناء منزله. لم يكن الفتى الأبنوسي يعرف مقدار ما وجده من كنز، لكنه لسوء حظه قد رآه أحد الأجانب الذين ربما يراقبون المكان بكمرات خفية أو بعيون السحرة القادرة ومنحه مبلغ مليون دولار بالتمام والكمال، وذلك مقابل السيف الذهبي بعد سجال عنيف كاد أن يفضحهما. ما أن رأى حسن الدولارات حتى سال لعابه. وافق حسن بعد أن عاند في البداية كما قلت لكم، لكنه استلم المبلغ وعده تماما ورقة ورقة، ووضعه في كيس كبير ونظر إلى الأجنبي وناوله السيف الذهبي، ولكن لحسن الحظ أو سوء حظه لا أدري أن الأجنبي لم يطلب منه غير ذلك.
ذهب حسن ودفن المال أيضا في ذات المكان الذي يرقد فيه كل ليلة، وفي أثناء نومه ليلا جاءه ميدوب وعشرة فرسان مجهولين وأوسعوه ضربا وقالوا له: إننا انتقمنا منك ولكن الحساب معك لم ينته بعد وأبلغوه أنه تم استرداد سيف بعانخي الذهبي من الأجنبي الأرعن القادم من وراء البحار، وهو في مكان محفوظ، أما الأجنبي فقد رميناه في النيل والتماسيح ستتولى باقي المسئولية.
زرت حسن في ذلك الصباح ووجدته محموما وكان بعض من جيرانه مجتمعين حوله وهم في ذهول، ولا يدرون ماذا حصل له.
وكان حسن يهذي بكلمات غير مفهومة وليس مدركا لما حوله لدرجة أنه لم يستطع التعرف علي وأيضا لم يستطع التعرف على عدد ممن زاروه.
لا أدري ماذا حصل له بالضبط ولكن حاله يدل على أنه مر بتجربة قاسية وتعذّب كثيرا، ربما شيء مرعب جدا لا يمكن تخيله قد حصل له. كان يقول بصوت خافت كأنه أنين: ميدوب. ميدوب وبدأتُ أفهم بعضا من هذيانه، وقلت: إن ميدوب اللعين وراء كل مصائب القرية، ماذا نحن فاعلون به، لا شيء. إنه قدر نزل علينا، لقد سيطر على حياتنا بصورة سافرة، وهو استعمار للأنفس وتكبيل للأرواح ونظرت إلى حسن وهو يواصل تمتماته، وكان يقول كأنه يخاطب شخصا أمامه: أعتذر منك، لن أكررها، سامحني يا ميدوب. كان الجميع ينصتون ولا أحد أعطى تفسيرا مناسبا لهذه الحالة.
رجعت إلى البيت وتخيلت منظر حسن وهو يتوسل بتلك الطريقة الوضيعة وتألمت جدا، وقلت في نفسي: كيف يمكنني مساعدته؟؟ وماذا يحتاج حسن بالضبط، لا أدري فالوقوف بجانب الأصدقاء في مثل هذه الظروف عمل أخلاقي ليس في مجتمعاتنا المسلمة فحسب، إنما في سائر الأمصار وفي أرجاء الكون.
كنت عائدا من شاطئ النيل في اليوم التالي، وسمعت صوتا خافتا يغني عند المقابر واقتربت منه وعرفت أنه صوت حسن ولجدما أفزعني منظره، كان يبكي ويغني في آن واحد.
وعندما اقتربت منه جرى نحوي وأمسك بثيابي بقوة وقال: عبد المعين الحقني يا أخي إن ميدوب يطاردني ويريد أن يطعمني تمرا مسموما. من أين أتى ميدوب بالتمر إلى المقابر ذاك شيء غريب جدا سألته: ماذا يقول ميدوب لك يا حسن؟؟ لم يجب حسن عن سؤالي هذه المرة.
لغز عجيب ما رأيته بأم عيني وسرعان ما سألت حسن ثانية وقلت له: أ يريد أن يقتلك؟ ولماذا؟ ما الجرم الذي اقترفته وهل قمت بشيء سيئ يتنافى مع قيمنا الكوشية؟
قال حسن: نعم نعم، ربما لا أدري وواصل كلامه إنه هنا، اللعنة عليه إنه يتبعني كظلي ولا يبتعد عني قيد أنملة.
أنا أهرب منه، إنه هناك الآن، يخرج من هنا ومن هناك، من تلك الحفرة وكان يشير إلى مكان ما.
كان حسن يرتجف ويقول: ميدوب يقول لي لماذا ذهبت لنهش قبر الملك أيها التعيس؟ إن هذه القبة مقبرة ملكية قديمة، كنز من كنوز العالم القديم، ما من شيخ مدفون هناك أيها الأفعى، لماذا سرقت محتويات المقبرة الملكية؟ ألا تعلم أيها الأفعى أن للمقبرة حراسها، كيف لك أن تبيع التاريخ؟ كيف لك أن تبيع إرث أجدادك؟ ألا تخجل أيها الحقير حقا أنك لست كوشيا .
وقلت في نفسي إن هذه التحف والتماثيل سر من أسرار القرون ومفتاح الألغاز لتطور الحياة على وجه البسيطة. وسر الحياة وإكسير الاستدامة وعلاج ما استعصى من الأمراض. كل الدنيا تعلم أهمية تاريخ كوش وأن تاريخ أجدادنا هو الحلقة المفقودة في أصل وفصل الإنسان، كل شيء مخبأ في تلك القبور، لذا لا تحزن كثيرا، كل ما سيلحق بك من مآسي فأنت تستحقها، ولا أخفيك أنهم سيرونك الويل وعظائم الأهوال. ولكني عدت إلى قلبي ولمت نفسي، هذا صديقك. كيف تفكر فيه بهذه الطريقة الوضيعة، سحقا للعقل إن كان يساندك هكذا.
منذ ذلك اليوم التعيس فقد حسن التركيز وكانت تنتابه حالات ذهول ولم يعد حسن ذلك الرجل البشوش والماكر، وعندما تم عرضه لطبيب نفسي قال لهم: قد تظنون أنني أكذب، لكن هذا الرجل مسحور وسحره غريب جدا لا يشبه السحر المنتشر هذا الزمان ولكني أجزم أن السحر موجود في كل العصور وأن هذه المنطقة بالذات تعج بها الأرواح منذ زمان سيدنا موسى ليس هذا فحسب بل قبل ذلك يجب أن يعرض لمستشفيات خارج البلاد وإن الحل والشفاء له قد يكون هناك وليس لنا ما نقدمه له في بلادنا ولكنني أعرف أن العلاج بالخارج فوق طاقته وإمكانياته وإمكانيات محبيه.
لم يكن يعرف الطبيب أن حسن قد جاءته منحة دراسية من روسيا شأنه شأني وأنه قد تحصل على مليون دولار وأن ميدوب قد استعاد سيف بعانخي الذهبي ولكنه أي ميدوب لم يسأل حسن عن الأموال وأين أخفاها.
وكان حسن قد أوحى للشاب أحمد وهو ابن عم ربيعة الكاهلية ولقد تعرف عليه قبل سفر ربيعة وعودتها إلى أهلها بمدة قصيرة وكان يعمل في مزرعة بالقرب من قريتنا مولن إركي لقد نشأت بينهما صداقة وكان حسن حريصا رغم حبه له أن لا يعرف أحمد علاقتي بابنة عمه ربيعة وعرفه فقط بمكان ومصدر الأموال وأوصاه أن لا يتصرف فيها أبداً إلا بوصية سيتركها عنده إذا حصل له مكروه، وهي أن يمنح نصف المبلغ لحبيبته وهيبة دون أن تعلم مصدر المال والباقي يبني به ضريحا له أو قبة، ويكتب عليها قبة الشيخ حسن جمعة عاش من أجل الحب والحياة الراقية وزُهقت روحه في طريق تحقيق حلمه.
تسارعت أخبار جنون حسن إلى الأسماع وحمل الناس الأخبار إلى كل مكان.
سمعت وهيبة الخبر الحزين ودخلت في نوبات بكاء مستمرة ولم تعد تعرف ماذا تفعل وهي ممزقة حقا بين حبها لحسن وتارة تتذكر إساءات حسن وخيانته لها وأقسمت بينها وبين نفسها أن تكرس كل وقتها لإنقاذ حبيبها، وذلك في لحظة ضعف عاطفي ورجت أحمد ليعمل كل ما يستطيع وإرساله إلى روسيا لتلقي العلاج.
تحصّل أحمد على المبلغ المدفون بإيعاز من حسن شخصيا في لحظة من لحظات صفائه الذهني، وسدد به لاحقا نفقات السفر لحسن وسلم لمرافقه (وهو ابن عم لحسن واسمه صالح) قدرا قليلا من المال في يده واحتفظ بالباقي في مكان آمن
سافر حسن إلى روسيا برفقة صديقه صالح وكان مريضا جدا من الناحية النفسية.
حسن حبيب الجميع سبقني إلى روسيا للاستشفاء بدل الدراسة، قلت هذا شيء طيب على الأقل. عليّ البحث عنه وتقديم كل ما يمكن أن يقدمه شخص عزيز أو قريب له قلت في نفسي: جاء موعد سفري وقلت لكم إنني وجدت منحة دراسية للسفر إلى موسكو.
بعد أيام من تاريخ سفر حسن حصل شيء سيء وهو أن أحمد قد سوّلت له نفسه أن يستولي على ما تبقى من مال حسن.
في يوم سفري كانت أمي مهتمة بأمري كما لم تهتم من قبل ومنذ الصباح الباكر جهزت حقيبة السفر ووضعت فيها بعض الدوم وبعض التمر وبعض التين وقالت لي إن الدوم يجلب الخير في بلاد الإفرنج سمعت جدي يقول ذلك.
وقفت أمي تنظر إلى الخرفان في الحظيرة لمدة طويلة حتى تختار لي الذبيحة أو ما تسمى الزوادة وبعد وقت قالت لي: ابني العزيز اختر أنت أحسنها.
إن أبناء قريتي قد ألهمهم سفري ومغامرتي وبدأوا تقويما جديدا، كلما أراد شخص أن يسأل عن تاريخ محدد كانوا يقولون بعد سفر عبد المعين إلى موسكو أم قبلها؟ لم يعيروا لسفر حسن اهتماما لأنه لم يكن من أصلاء القرية كما يعتقدون، إذ إنه غريب نزل قريتنا ذات يوم مع أمه كما ذكرت لكم سابقا .
جاءت السيارة التي أقلتني وسلمت على الجميع واحداً بعد آخر، منهم من بكى ومنهم من عانقني بقوة ومنهم من وضع في جيبي نقودا، ولقد تحركنا بعد أن انتهت مراسم الوداع، لم أر والدي حزينا مثل ذلك اليوم ولقد تداخلت مشاعر غريبة في داخلي ومرت بي لحظات حزن رهيبة، وكانت هذه آخر مرة أرى فيها والديّ، وبكت أمي كثيرا وحضنتي مطولا ومدتني بطاقة هائلة، لقد ارتسمت تلك اللحظات الخالدة في ذهني إلى الأبد، وداعا قريتي الخضراء، وداعا فسحة الأمل، قلت في نفسي، وبعد أربع ساعات وصلنا إلى قهوة سيدي عكاشة.
وهناك جلسنا في صورة دائرية، كل أتى بمؤونته استمتعنا كثيرا بأكل اللحوم وكل ما لذّ وطاب من أنواع الطعام، وهناك مروج خضراء معروفة بمحاذاة النيل غرب عكاشة، وزرنا حمامات عكاشة المعروفة والتي يزورها الكثيرون من أجل التداوي والشفاء.
بعدها بساعتين شق الباص طريقه إلى حلفا ورأيت تلك المدينة النوبية العريقة التي أغرقتها مياه السد العالي وتحولت من مدينة لا تنام وعصرية بمنارات مساجدها العتيقة إلى حالة بائسة.
استأذنت مرافقي وذهبت إلى النهر وعلى الشاطئ وقفت أبكي حزنا على جدي من أبي الذي مات هناك منذ خمسين عاما وأغرقت قبره المياه يوم أغرقت حلفا وكان والدي قد أوصاني أن لا أغادر حلفا إلا بعد أن أزور قبر أبيه وأقرأ الفاتحة على روحه الطاهرة.
ووعدته ولم أخن وعدي، وذهبت أقف على الشاطئ أرثي جدي، ومقابر الآلاف من أهلي الذين دفنوا هناك، قبل أن تبتلع البحيرة الكبيرة كامل مساحة المدينة التاريخية.
نعم نعم وقفت هناك وأنا أبكي وأنشد بصوت عال، وأنا أذكر أنني كتبت ذات مرة تأبينا لضحايا غرق حلفا، كان ذلك في ذكرى غرق وادي حلفا التاسعة والأربعين، ورفضا لتكرار مأساة السدود في دال وكجبار، وكانت المشاعر تتداخل بصورة مأساوية في خاطري، ووقفت أنشد، تارة يأكلني الحزن وتارة يحدوني الأمل للخلاص من مآسي اليوم نحو غد أفضل.
الجزء الحلو من الكأس
يا صحابي قد شدوتم بالأغاني العاطفية
وحلمتم بالأماني السرمدية
بسهرة في نص الليالي
عند حلفا
اللمّة حلوة
يلا يا أحباب نغني
نهدي أحزان الليالي
يلا يا حلفا نغني
نغسل الحزن الموشى
بالرحيل والقبور والنخيل
وريحة الراحلين
ندي للطمبور دروبه
يلا يا رطانة غنوا
نفحة من وهج السواقي
يلا شوفوا
طلة من بنَوت بعانخي
ورقصة من محسية حلوة
يلا يا نوبا البهية
ندي للتاريخ تحية
ولجدي جنة الزمن البتول
كل روح بجناحات تطير
رحمة من رب العباد
تثلج الجسد المخبأ
وسط أمواج البحيرة
الجزء المحزن من الكأس
الغد المجهول آت
لو سكتنا يا برية
كيف نؤمن بالأماني
والوعود الأولية
والنوايا لا تؤثر
في القرارات العتيقة
الجاية من دون روية
قد رأيت الحلم كابوسا ينادي
كان في حلفا القديمة قبر جدي
لم نزره وراح جدي
ضاع في جوف المياه أثر جدي
كان يوما بائسا يوم وقفتم صامتين
نرثي الأطلال والقبر الكبير
قبر حلفا
هل رأيتم قبر حلفا؟
وسمعتم أنّة الزمن الحزين
المآذن قد تهاوت
المدارس والبيوت
والنخيل الباسقات تئنّ من وهن الشجون
ويعود الزمن إسفينا يدق على نعوش الذاكرة
أبتاه هل دار الزمان؟
ليكرر المأساة للقلب الحزين
نأبى ونرسلها ممانعة إلى كل الشهود
لا للضياع
لا للرحيل
قسما نمجّدها أراضينا وآثار الجدود
وتكوني يا نُوبا كما أنت إلى الأبد الأبيد
كفكفت دموعي وعدت ثانية إلى المطعم.
وفي المساء انطلق بنا القطار قاطعا الصحراء الكوشية صوب الخرطوم، وقفت على سطح القطار ألقي نظرة الوداع لما تبقى من المدينة العتيقة، ولم أكن أعرف أن وقوفي بتلك الطريقة في جو عاصف قد يكلفني القروش التي كنت أحملها مصروفا لي، حيث طارت كل العملات الورقية في الهواء ولم يبق في جيبي شيء، ربما طارت لأن القدر لم يكن يريد أن يغادر شاب مثلي أرضنا الكوشية. وفي البلد الذي تركته كانت ترتب هناك مأساة كبرى لم أعلم بها إلا بعد فوات الأوان، وهو كيف أجبرت أسرة ربيعة حبيبتي على زواج من غيري، وسآتي إلى ذكرها متى آن الأوان.
وصلت إلى الخرطوم ووجدت تاكسيا ظريفا تفهم وضعي وأوصلني إلى بيت أخي في منطقة الكلاكلات بالمجان، وأنا ممتن له كثيرا.
بعد أن أنهيت إجراءات السفر ودعت أهلي في الخرطوم بدءا من الكلاكلة مرتع النوبيين الأكبر إلى الحاج يوسف مرورا بأركويت والصحافات، وعدت إلى بيت أهلي ونمت منتظرا ليلة السفر.

حسن خليل 24-07-23 10:47 AM

رد: فارس من أرض كوش متابعة
 
شكرًا جزيلاً لك أخي عادل على هذه القصة المشوقة.

لي عودة لتكملتها لاحقًا إن شاء الله.

أقترح عليك تكبير الخط في المرة القادمة حتى تريح عين القارئ وذلك لطول القصة.


الساعة الآن 12:02 PM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. , Designed & TranZ By Almuhajir