الموضوع
:
هنا طلبات : مادة التعبير تجتمع تحت سقف واحد بكل فروعها
عرض مشاركة واحدة
#
31
27-04-08, 01:52 AM
AbduLraHmN
مطرود لسوء أخلاقه
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة الكاك
سلام ياولد العم تكفى ابغى ندوات
العلمانية والفن
■
د. إبراهيم الخولي ـ أستاذ البلاغة والأدب المتفرغ بكلية اللغة العربية ـ جامعة الأزهر .
■
د. عبد العظيم إبراهيم المطعني ـ أستاذ البلاغة والأدب المتفرغ بكلية اللغة العربية ـ فرع إيتاي البارود ـ جامعة الأزهر.
■
د. حلمي محمد القاعود ـ أستاذ ورئيس قسم الأدب والنقد بكلية الآداب ـ جامعة طنطا.
■
الأستاذ: محمود خليل ـ الإعلامي المعروف وعضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية.
________________________________________
البيان: موضوع هذه الندوة غاية في الوضوح غاية في التعقيد يلمس أثره المؤمن بإيمانه، ويكشف أبعاده المدقق بإمعانه. والقضية تحتاج في ابتدائها إلى تحديد مفهومي العلمانية والفن باتخاذهما مدخلاً لمعالجتها.
ماهية العلمانية
■
د. إبراهيم الخولي:
قضية العلمانية هي قضية المجتمع الإسلامي المعاصر ـ ليس اليوم فقط ـ وإنما منذ فترة طويلة؛ فالعلمانية في العالم الإسلامي هي راسب من رواسب الاستعمار، وإذا كانت تبدو اليوم عالية الصوت فليس لكونها استفادت قوة؛ وإنما لأن مواجهتها في العالم الإسلامي هي التي منيت بالضعف، وهي تأخذ مفهومين متطورين: في البداية أخذت مفهوم فصل الدين عن الدولة، وانتهت إلى نبذ الدين جملة ومحاربته حرباً لا هوادة فيها. وكلنا يعرف مقولة ماركس الشهيرة: «الدين أفيون الشعوب»، ولذلك رأى الماركسيون ومن لف لفهم من العلمانيين أن الدين هو المسؤول الأول عن طغيان الرأسمالية والطبقية، وعن المظالم الاجتماعية، وعن جرائم مؤسسات البنية العليا، وأن الدين هو المسؤول عن تخدير الشعوب واستكانتها لجلاديها ومن ثم لا صلاح للمجتمع الإنساني إلا بإقصاء الدين جملة.
والعلمانية وافد غريب على مجتمعاتنا لا مكان لها فيها؛ لأنها نشأت حلاً لمعضلة واجهها المجتمع الغربي النصراني ولم يكن أمامه من حل سوى اللجوء إليها؛ حيث بدأ العقل الغربي يتمرد على الكنيسة بعد أن قطع في الحركة العلمية في المجال التجريبي شوطاً، وبعد أن صادرت الكنيسة العقل، وصادرت العلم، وصادرت حق الحياة. وبعد صراع مرير إلى جانب صراع آخر على السلطة بين الأمراء والكنيسة انعتق من استبداد الكنيسة وبدأت مرحلة جديدة من المهادنة بين «الكنيسة» السلطة الدينية و «الحركة العلمية» من جهة، وبين السلطة الزمنية «الحكام» من جهة أخرى، وهنا بدأت العلمانية بمعناها المبكر فصل الدين عن الدولة بتقاسم السلطة: للكنيسة سلطتها على ضمائر الناس وعلى قلوبهم، وللسلطة الزمنية السيطرة على كل ما يتصل بشؤون الحياة والتوجيه والتشريع، وتصبح العلاقة بين الكنيسة والدولة الناشئة التي بدأت فكرة السيادة على مفاهيمها العلاقة: (لا مساس).
وفي تقديري أن هذا كان لوناً من المكيافيلية ريثما تستحكم قوة الدولة المدنية لتحميهم ثم تنتقل إلى المرحلة الثانية التي تجاوزت العلمانية فيها الاكتفاء بمجرد الفصل إلى إقصاء الدين جملة عن توجه الحياة، ثم تمادى هذا التيار وانتهى إلى ما نسميه بـ (الإلحاد العلمي) الذي ساد أوروبا شرقاً وغرباً، وانتهت المسألة بأن أصبحت العلمانية أخيراً تساوي الإلحاد وتعني إقصاء الدين جملة وتفصيلاً عن المجتمع وعن توجيه الحياة فيه. ولم تجد الكنيسة بداً من أن تستسلم لهذا؛ وأظن أن التلاعبات التي حدثت بعد هذا تسري آثارها اليوم بشكل أشد حدة.
■
د. حلمي القاعود:
العلمانية نتاج المجتمعات الأوروبية في العصر الحديث، وقد تأكدت في القرنين الأخيرين بسبب الخواء الروحي والعقدي الذي يعيشه الأوروبيون من ناحية، وهيمنة الكنيسة الكاثوليكية من ناحية أخرى، ولعل ثورة كالفن ولوثر التي عرفت فيما بعد باسم الاحتجاج على الكنيسة الكاثوليكية (البروتستانتية) كانت مقدمة لكسر الهيمنة الكنسية، وفصم عرى العلاقة الوثيقة بين الكنيسة والدولة، أو بين السلطة الزمنية والسلطة الروحية.
وإجمالاً، فإن العلمانية كانت إجراء يهدف إلى إزاحة سيطرة الكنيسة على الحكومة في أوروبا، خاصة بعد أن تنوعت مظالم القساوسة ورجال الدين ضد المجتمع، ووقوفها ضد العلم، وإحراق بعض الفلاسفة والعلماء بسبب آرائهم أو كشوفاتهم، ومـن أشهر الأمثلة على ذلك «سبينوزا» صاحـب مدرسة النقـد التاريخي الذي كان مصيره الحـرق، و «كوبرنيكس» الذي حرَّمت الكنيسة كتابه: «حركات الأجرام السماوية» الذي نشر عام 1543م، و «جردانو» الذي صنع تلسكوباً فعذب عذاباً شديداً وعمره آنئذٍ سبعون عاماً، وتوفي 1642م.
والعلمانية تعني (غير الدينية) أو (الدنيوية) ومفهومها بالمصطلح الإنجــليزي
secularism
لا علاقة له بالعلم
science
أو المذهب العلمي
scientism
، ولأن العلمانية بعيدة عن الدين؛ فقد اهتمت بما يسمى تحرير العقل، وإضفاء صفات الألوهية على الطبيعة، وتطبيق المنهج التجريبي، مما أدى إلى إنكار أية علاقة بين الله وبين حياة الإنسان، وإقامة الحياة على أساس مادي صرف، وهو ما تبلور في شيوع الإباحية والقبول بالفوضى الخلقية وهدم كيان الأسرة.
وكان نصيب العرب والمسلمين من العلمانية غير قليل؛ حيث تسللت إليهم عبر جيوش الاستعمار منذ حملة نابليون على مصر والشام ثم حملات الإنجليز والفرنسيين والأسبان على بلاد العرب، فأدخلوا القوانين الأوروبية (خاصة القانون الفرنسي) وغيروا نظم التعليم، ووجهوا المتعلمين إلى الثقافة الأجنبية وإهمال الثقافة الإسلامية التي تمثل ثقافة البلاد وكان إعلاء شأن الثقافة الأجنبية واحتضان المهتمين بها من أبناء المسلمين عاملاً مؤثرًا في إهمال شأن الثقافة الإسلامية؛ بل ازدرائها وتحقيرها.
ماهية الفن
■
د. عبد العظيم المطعني:
الفن في الأصل يمكن تعريفه ـ ببراءة ينبغي أن تكون فيه ـ بأنه «القول الجميل»، ثم اتسع مفهومه من القول ليشمل العمل، فتولد عنه المسرح منذ القديم، ثم زاحمته السينما والشاشة الصغيرة كما يقولون الآن. وهو نتاج فكري خاص يتميز عن أنواع التفكير الأخرى.
والذي يقابل الفن ـ مع شيء من التسامح ـ العلم. والعلم أيضاً نتاج عقلي؛ لكن رسالة العقل في حيز العلم نستطيع أن نشبهها بالمرآة تعكس ملامح الصورة التي تقف أمامها، ومعنى هذا أن يكون نتاج العقل في حيز العلم خبراً مطابقاً للواقع، أما نتاج العقل في مجال الفن فيتلون حسب الرؤية الخاصة بمن يعمل في مجال الفن؛ فالعقل ليس مقيداً في مجال الفن بحدود الواقع ولكن له حرية القفز فوق هذا الواقع، وله حق تصويره حسبما يراه الفنان على ما هو عليه في الواقع؛ ولذلك قالوا: إن العلم موضوعي والفن ذاتي، وتعني موضوعية العلم أنه حقائق يدركها جميع العقلاء كالمعادلات الرياضية وما أشبهها.
أما الفنون فنتاج ذاتي يتلون بتلون صاحب النموذج؛ فلو أتينا بعالمين ـ طبيبين مثلاً ـ ليتحدثا عن الشيب في رأس الإنسان فسوف يتحدثان عن الأسباب والمظاهر البيولوجية المصاحبة للشيب سواء كان في سن مبكرة أو متأخرة.
لكن إذا عرضنا هذه الظاهرة على أديبين فسوف يختلفان، وقد حدث هذا بالفعل؛ إذ رآه أحدهما سيفاً مسلطاً على رقاب العباد وأنه نذير للنهاية، بينما رآه آخر لمعة بيضاء تنم عن كمال التجربة وخبرة الأيام عند الإنسان؛ ومن هنا فإن الفنان يتمتع بحرية شرط أن يكون صادق الإحساس مع نفسه غير متكلف.
والفن بعد هذا يعتمد على عناصر أربعة، يشترك العلم معه اشتراكاً أساسياً في عنصر منها وهو المعنى؛ لأن كلا النموذجين لا بد أن يحمل فكرة أو معنى، ثم يختلف الفن بعد ذلك بأنه يغلف بالخيال، و أن تشيع في روحه العاطفة، وأن تكون اللغة رومانسية ـ وليست كلاسيكية ـ. تقوم على التفخيم والتهويم والتجسيم.. سواء كان هذا الفن شعراً وهو أرقى أنواع الفنون، أو نثراً كالقصة والأقصوصة أو كان غير ذلك.
ومن هنا نحن نتحدث عن الفن في مرحلة قراءته بأنه الفن الجميل برؤية خاصة تكون وراءها تجربة للفنان أو الأديب، وسعة خيال يتشكل به النموذج؛ هذا هو الفن، ومجاله أوسع بكثير من مجال العلم باعتبار الحرية التي يتمتع بها الفنان.
وقد حكي عن بعض الصحابة وهو النابغة الجعدي أنه قال بيتاً من الشعر أمام النبي -صلى الله عليه وسلم-:
بلغنا السماء مجدنا وجدودنا وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
وهنا يأتي الرسول -صلى الله عليه وسلم- من زاوية نقدية مُوجِّهَة فقال له: «أين المظهر بعد ذلك يا أبا ليلى؟» فأوقعه في حرج، ثم تدارك أبو ليلى قائلاً: إلى الجنة. فقال -صلى الله عليه وسلم-: «أجل! إن شاء الله»(1).. هذا النموذج النبوي الكريم فيه رد مفحم على دعوى تتفجر هذه الأيام بعد أن اصطبغ الفن بالصبغة العلمانية: بأن الأدب لا سلطان لأحد عليه لا من ناحية الدين أو التقاليد والعادات، ولا من ناحية السياسة، وإنما الذي يحكم على الأديب المبدع حسبما يدَّعون هو الأديب المبدع، وفيما جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- هنا رد على هذا الادعاء؛ إذ كف ـ عليه الصلاة والسلام ـ مبالغة شاعر بريئة، ونبهه إلى أنه جنح في خياله؛ ولكن الله ألهم الشاعر فرد بما أرضى النبي -صلى الله عليه وسلم-.
ومن هنا فإن الفن أداة لتطوير المجتمع وإمتاعه وإقناعه وخدمته، والفن في تاريخ الأمة سبق تحولات خطيرة في التاريخ: نبَّه على عيوب فتلافتها الأمة، بصَّر بحقائق يجب أن يدان لها ويعمل من أجلها؛ وصدق الشاعر:
ولولا خلال سنها الشعر ما درى بناة العلا من أين تؤتى المكارم
■
د. حلمي القاعود:
يمثل الفن جزءاً من ثقافة أي أمة من الأمم، وقد عرفت الثقافة الإسلامية فنوناً قولية وشعبية انتشرت في البلاد العربية والإسلامية وخاصة فنون الشعر الغنائي والنثر الفني والسير الشعبية والقصص الخيالية والتاريخية، فضلاً عن فنون الهندسة المعمارية والرسم والخط والزخرفة سواء على الورق أو الجدران أو المحاريب أو مداخل القصور والمساجد.. وغير ذلك.
بيد أن الاحتكاك مع حركات الاستعمار الأوروبي وطلائع التنصير والثقافة الغربية مهّدت لازدهار فنون جديدة كانت معرفة المسلمين بها محدودة أو غير واضحة مثل المسرح والسينما والأوبرا، ومؤخرًا دراما التليفزيون، وكلها تقوم على العنصر الدرامي: (الحكاية والصراع في داخلها، أو الحوار بين شخوصها)، ومهمة هذه الفنون نقل الأفكار والتبشير بالتصورات غير المألوفة، وبذلك دخل المسلمون عن طريق الدراما إلى عالم جديد من القيم العلمانية التي تتصادم في الغالب مع القيم الإسلامية، حيث بشّرت الفنون الدرامية بقيم الاختلاط المطلق، والعري، والعلاقات الإباحية، والإلحاد، والانتهازية، والبقاء للأقوى وليس للأصلح، وتسويغ العنف والشر والرذيلة، والتبشير بالرجل الغربي بوصفه «السوبر مان» أو الرجل الأعلى القادر على فعل كل شيء، والتغلب على كل الصعاب التي تعترضه، فضلاً عن تأثيرها السلبي حين تُقدِّم صورة الرجل المسلم عموماً في إطار كئيب ورديء بوصفه ميّالاً للدعة والكسل، والكذب والقذارة والخيانة والنفاق، أو تجعله صنوًا للجهل والتحجر والجمود والتنطع والجهامة والقسوة، أو محلاً للسخرية والاستهزاء.. وفي إطار ذلك كله كان التركيز على عزل الإسلام بعيداً عن واقع الحياة والمجتمع في الأعمال الدرامية؛ بحيث بدا «ديناً كنسياً» يرتبط في الأذهان بالمسجد أو المقبرة فحسب!
هناك مقولة قرأتها للرئيس البوسني «علي عزت بيچوفيتش» فحواها أن الفن هو الوجه الآخر للدين، وقد ذكر الناقد الأنجلو أميركي «ت. س. إليوت» هـذا المعـنى بعبارة أخرى في كتابه حول معنى الثقـافـة.
قرابة الفن للدين قائمة، ولكن أي فن؟ هذا هو السؤال الذي يتردد في أذهان الكثيرين، وخاصة في زمن الالتباس الذي نعيشه؛ حيث تختلط المفاهيم، وتتداخل المصطلحات، وتراوغ التعريفات.
كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يعجب بشعر أمية بن أبي الصلت ويستنشده، وكان يعجب بشعراء آخرين، وخلع على كعب بن زهير بن أبي سلمى بردته حين أنشده قصيدته اللامية المشهورة(1):
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول متيم إثرها لم يُفد مكبول
وما ذلك إلا لأن القصيدة كانت فناً جميلاً صاغ معاني عظيمة تصب في خانة ترقية الإنسان والتبشير بقيم عليا، وهذه آية الفن الجيد الذي يعد بمفهوم علي عزت بيچوفيتش الوجه الآخر للدين.
وإذا نظرنا إلى نشأة المسرح في الزمن القديم عند الإغريق والرومان فسنجدها قد ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بالدين؛ ففي الأعياد المقدسة التي كانوا يقيمونها في المعابد كانوا يقومون بأداء التمثيليات أو المسرحيات أو الملاحم التي تعبر عن علاقتهم بآلهتهم أو رغبتهم في تقديم الشكر لها وخاصة بعد الحصاد، والعديد من أصحاب الشرائع السماوية والأديان الوضعية يقومون في معابدهم حتى اليوم بتقديم ألوان من الفنون الدرامية والموسيقية تعبيراً عن عقائدهم أو قصص أنبيائهم أو علاقتهم بمن يعبدون ويقدسون.
وقد سجل المصريون القدماء على حوائط مقابرهم ومعابدهم بالرسم والكتابة لوناً من هذه الفنون التي تكشف عن طاعتهم لمعبودهم أو مصائرهم بعد الحياة الدنيا.
إذن الفن مرتبط بطريقة ما بالروح الإنسانية؛ وقد اتخذته بعض الفلسفات الوضعية بل والدينية وسيلة للتطهير والارتقاء أو التكفير والغفران، شريطة أن يكون بعيداً عن الغواية والانحراف.
■
أ . محمود خليل:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
الفن كما قال الدكتور المطعني: «كسب من كسوبات الإنسان يعبر به عن ذاته»، وهو تعبير أساسي عن مواجيد نفسه كأحد نتاجات الذات الإنسانية؛ فإن توافقت مع فطرة النفس وناموس الكون وتقيدت بالشرع كان الفن إسلامياً؛ إذن العيب لا يأتي من الفن وإنما من إساءة استخدامه.
ولما كان الفن هو المعادل الظاهر المرئي لمكون أساسي من مكونات النفس البشرية كان لا بد له من أن يحمل رسالة تعبر عمــا تفتعل بــه النفـس، والله ـ تعالى ـ أمرنا أن نعتبر بالشاكلة لا بالشكل فقال: {قٍلً كٍلَِ يّعًمّلٍ عّلّى" شّاكٌلّتٌهٌ} [الإسراء: 84]؛ كان علينا أن نفرق بين الشاكلة المسلمة وما سواها، وإذا كان حديثنا عن العلمانية وتوظيفها للفن واصطباغ هذا الفن بصبغتها في ظل غياب الفاعل الإسلامي الذي يتعامل مع النفس السوية في ظل هذا الغياب كان همُّ العلمانية أن تشغل المساحة الفارغة في المجتمعات المسلمة التي لم تمتلئ بالحق فاتخذت من الفن معبراً.
والفن كان الضالة المنشودة والقنطرة التي عبرت عليه كل الأيديولوجيات والنظريات الفلسفية التي خرجت عن الإطار الإنساني الصحيح، ومن ثم كان الفن هو التعبير المهاجم للأديان سواء في زي الماركسية، أو في ظل الوجودية وما بعد الوجودية والحداثة وما بعد الحداثة التي تنقض على الأديان وتنزل المقدس منزلة المدنس.
ولئن وقع الخلط طويلاً بين الفن باعتباره وسيلة، والفن من قبيل المضمون مما جعلنا نغفل دوره في تعميق المفاهيم الشرعية في المجتمع، إلا أن تلك المذاهب قد استغلته منذ زمن بعيد، فلم يكن عجيباً أن يقول ماركس من أول يوم: «لأُنسين الناس بالمسرح» عام 1907م، ثم يأتي لينين من بعده فيقول: «لئن غابت عنا السينما إلى الآن فليعلم الماركسيون في العالم أن السينما بالنسبة لنا أهم الفنون»، ويأتي بعد ذلك ليون تروتسكي الثائر الماركسي ويقول عام 1923م: «لئن تركنا السينما دون أن نعبئها تعبئة ماركسية هادفة إلى الآن فلا أقول نحن مقصِّرون، بل أقول نحن متخلفون أغبياء».
إذن واضع الفلسفة الشيوعية ماركس، ومطبقها لينين، والمنظر والثائر الراديكالي في داخل الفلسفة تروتسكي يعلمون جيداً قيمة الفن من حيث إنه وسيلة؛ فهذا قال المسرح، والآخر قال السينما، والثالث وجد التطوير التطبيقي للسينما.
والسينما عندما ظهرت في أوروبا عام 1895م جاءت إلى مصر بعدها بعامين لم يكن هذا لسبقنا، ولكنها مثلت وعاء فارغاً شغله غيرنا في غيبة منا؛ وبهذا كان الفن مطية ذلولاً بالنسبة لهم على قدر ما كانت سلعة مشتهاة بالنسبة لنا، فشغلوا النفوس بالباطل في غيبة من الحق.
ولأن الفن قد نشأ حين نشأ في أحضان الوثنية اليونانية القديمة فهو لا يعرف للدين منهاجاً وإذا عرف الدين فيعرفه في الآلهة وأنصاف الآلهة: آلهة الريح وآلهة المطر وغير ذلك، ولهذا فهو يحمل ظلالاً مشوهة وانقضاضاً على الأديان منذ أن كان فناً يونانياً قديماً في ظلال المسرح، ومنذ أن أصبح فناً سينمائياً في أحضان الماركسية. والماركسية هي الصيحة الثائرة للصهيونية، كما أن أهم ركائز الفـن ـ وهو التمويل ـ كان أيضاً صهيونياً، والفن السينمائي المعاصر نَبَتَ من أحضان ماير روتشيلد وإخوته فمولوه تمويلاً مسموماً صهيونياً منذ نشأته إلى أن انتهى إلى هوليود التي أصبحت تُدخل إلى ساحتها من شاءت. كما أننا لو نظرنا إلى بذور الفن الأولى في مصر علــى وجــه التحديـد لوجدناهـم إما يهـوداً وإما متهوديــن ســواء في التمـويل أو فـي الإخــراج.
والفن بالمعنى المطلق لا يمكن الحكم عليه حتى يتحيز ويتشكل، ونحن نرى هنا أنهم حين صنعوه ووضعوا له أطراً أصبحت كمسلَّمات تقعيدية هُيِّئ للكثيرين أنه لا يصلح إلا بهذا النجس.
البيان: إذن يمكننا التفريق بين مفهومين للفن: أحدهما لغوي وضعي مرتبط بالبراءة الأصلية هو كالمعنى المطلق، والآخر واقعي مرتبط بالممارسة القائمة التي قدمتها العلمانية ونظّرت لها وقعّدت، وهو أشبه بتحريف لهذا المطلق، والعلاقة بينهما علاقة ما بين الواقع والمثال. ونظراً لابتعاد الواقع عن المثال وطغيانه عليه في ظل الممارسة العلمانية نود أن نكشف طرفاً من التزييف العلماني باسم الفن، ونبين لماذا الفن بالذات؟
■
د. إبراهيم الخولي:
الفن من حيث هو سلاح يتوقف أثره على هدف من يستعمله، وعلى القذيفة التي يطلقها من خلاله، والعلمانية حين تختار الفن وتوظفه فإنها تعرف غايتها وطريقها والوسيلة الصحيحة لتحقيق أهدافها، وحين قال ماركس: «الدين أفيون الشعوب» كان يدرك الأثر الحقيقي للدين في نفوس البشر.. أدرك هذا جيداً وحاول أن يقصي الدين لما له من تأثير على نفوس البشر.. لا يستطيع ماركس بهُرائه الذي زعمه فلسفة أن ينال من نفس مؤمنة مهتدية بدين الإسلام؛ فكانت المعركة ضد الإسلام لإزاحة العائق أولاً، فإذا ما انتهت من هذه الحصانة والمناعة التي يهبها الدين للنفس أمكن غزوها وأمكن وأمكن...
الأثر النفسي للدين يقترب منه الأثر النفسي للفن دون تشبيه، والفن مخدر للنفس، وظيفته الأولى تخدير عقل المتلقي ليستقبل الرسالة التي يحملها الفن وهو مستسلم سلبي قابل دون أدنى مقاومة، وهنا نفهم لماذا هذه الحشود التي يصطنعها الفن من مؤثرات صوتية وبصرية، وحشد لعناصر قد لا يحتاج الأمر لشيء منها مثل عنصر المرأة.. الموسيقى.. الرقص.. كل هذا يحشر حشراً؛ مع أن النقاد والمتخصصين يرون أن هذا العنصر أو ذاك لم يكن له مكان في هذه الأعمال سواء كانت مسرحية أو دراما أو تراجيديا، ومع هذا يصر المخرج على إقحامه؛ لأن هذه العناصر هي التي ستزيل كل العوائق وتفتح كل المنافذ ليصل الفن برسالته المراد إيصالها إلى النفس وهي في موقف السلب.
ولو أنا أخذنا المضمون نفسه في صورة كتاب يقدم أفكاراً عارية ومباشرة، أو في صورة رواية أو في صورة رؤية أو عرض فلسفي لما كان لها عشر معشار هذا التأثير، لكن لما استعان بالأساليب الفنية، وتلاعب بعقل الإنسان فخدَّره.. وبخياله فأطلقه.. وبعاطفته فاستثارها.. وبغرائزه فأيقظها، استطاع أن يسيطر عليه فأصبح كالمنوم مغناطيسياً يؤثر فيه ويوحي إليه بما شاء وهو قابل سلبي كأنما عدمت إرادته عدماً كاملاً.
هناك إشكالية لا بد من الانتباه إليها من حيث مفهوم الفن، وهي أن كثيراً مما يندرج اليوم تحت مسمى الفن هو مندرج من جهة الشرع عندنا ضمن دائرة الحظر. بل للأسف الشديد أن أول ما يدخل في دائرة الحظر عندنا هو أول ما يتجه إليه غيرنا باسم الفن، وهذه مناقضة أساسية لا بد أن تكون في تقديرنا لهذا الأمر.
■
د. حلمي القاعود:
الإسلام لا يرفض الفن الذي يرقى بالإنسان ويهذب غرائزه ويحض على المثل العليا ويحبب إليه الدفاع عن عقيدته ونشرها بين الناس وتوضيح معالمها وآفاقها.. ولكنه يرفض ـ بالطبع ـ تلك الصورة الشائهة التي تقدمها بعض الجهات في الدول العربية والإسلامية تحت مسمى «الفن»؛ فهذه الأعمال الرخيصة لا تدخل ضمن الإطار الفني بقدر ما تدخل في الإطار التجاري الذي يسعى إلى الكسب الحرام.. وقد أصبح مألوفاً مثلاً لدى الجمهور العادي أن هذا المخرج أو ذاك يسعى لكسب المشاهدين عن طريق الإثارة، سواء كانت هذه الإثارة بوسيلة كلامية عن الجنس، أو عن طريق استخدام الأجساد العارية لراقصات أو ممثلات تجذب الشباب المراهق أو المنحرف، فضلاً عن العنف الذي يقدم في الفيلم أو المسرح أو التليفزيون من خلال مشاهد القتل أو السطو أو المعارك أو الصدام مع الشرطة أو غير ذلك.
ولا شك أن هذه النوعية التجارية تمثل انحرافاً واضحاً برسالة الفن الدرامي الذي يخاطب شريحة ضخمة من المشاهدين من مختلف الأعمار والطبقات والفئات، وخاصة بعد ذلك الانتشار الهائل لأجهزة التليفزيون، وتوفر أجهزة الالتقاط للمحطات التليفزيونية من أنحاء العالم كافة.
■
أ - محمود خليل:
هناك إيضاح بسيط بخصوص كلام أستاذنا الدكتور الخولي حول كون الفن المعاصر ولا سيما المرئي يجعل المشاهد في حال غيبوبة، وهو إن جاز التعبير، فإن المغيب لا يفعل ولا يؤثر، لكن أنا أرى أنه يعيش حالة استلاب؛ لأنهم لا يريدون تغييبه فقط، ولكن الفن المعاصر يريد أن يحتله احتلالاً لحظياً ليصنع منه كائناً فاعلاً ولكن لخدمة أهداف بذاتها، ولذلك يقولون: إن أحدث وأصح وسائل الاتصال هي التي لا تتحدث إلى الآخرين وإنما تتحدث معهم، فهو يجعل منه دائرة اتصال فاعلة حية نابضة ينتظر منه فعلاً موجباً فيما بعد، وإلا لو كان تغييباً لانتهى عند هذا التخدير والمخدر لا يصنع ولا يتحرك.
■
د. حلمي القاعود:
يلاحظ أن الإسلام في فنونه يهتم بالتجريد، وغيره يهتم بالتجسيم، وهذا الفارق مهم جداً؛ لأن الفنان المسلم يهدف إلى قيمة بالدرجة الأولى، أما الفنان غير المسلم فيهدف في الغالب إلى منفعة والفارق بين التوجهين كبير على مستوى النظرية والتطبيق معاً، وإذا عرفنا أن «البراجماتية» ـ أي المذهب النفعي ـ أساس من أسس «العلمانية» أدركنا مدى سطوتها في الترويج للقيم النفعية التي لا تضع في حسبانها الدين، أي دين، وما يفرضه من مبادئ خلقية خيّرة.
ومن هذا المنطلق نجد أن الانحراف بالفن أو الفنون عامة جاء من قبل الدول والمؤسسات العلمانية التي أباحت لنفسها حق اللعب بغرائز البشر، واسترقاق المرأة لتتعرى في الأفلام والمسرحيات والمسلسلات، وتمارس الجنس بلا حياء، وتعيش أو تمثل حياة الحيوانية في أحط دركاتها.
إن الغاية تسوِّغ الوسيلة في المنهج العلماني؛ ولذا نجد اللصّ الذي يكسر خزائن البنك ليسرقه، ويتغلب على جهاز الشرطة الذي يحاصره أو يطارده، ويطيح بإشارات المرور، ويمضي قدماً بما سرق حتى يعبر الحدود الدولية ظافراً، وينتهي الفيلم واللص بابتسامة عريضة تصنع أو تهيئ لقبول التعاطف مع اللصوص الأذكياء الذين يظفرون بالفريسة ولا يخسرون شيئاً (ترى هل صورة اللص هنا ترمز إلى الاستعمار بهدف تحسين جرائمه؟).
لا شك أن النظرة العلمانية أسهمت في «سوقية الفن» بطريقة فعالة؛ حيث أسقطت الحاجز أو الوازع الديني الذي يجعل رسالة الفن فوق الرغبة في الكسب بأي ثمن، وأسقطت غاية الفن التي هي غاية بنائية تهدف إلى ترميم النفوس المشروخة، وتشجيع الأرواح المكسورة على تجاوز الأخطاء وترسيخ المفاهيم الإيجابية والقيم المضيئة.
إن الفنون الدرامية في عالم اليوم لها تأثيرها الفعال؛ حيث يمكنها أن تصل بسرعة وسهولة إلى غرف النوم وتقدم للمشاهد أفكاراً وقيماً وسلوكيات يستوعبها ويتشربها بسرعة؛ لأنها تتسلل إليه وهو في حال استرخاء تام، لا يستطيع لها دفعاً..
ومن ثمّ فإن أهمية التزام العمل الفني بروح الدين تضحي ضرورة أساسية في تقديم التصور الصحيح والفكرة الناضجة والقيمة الإيجابية والسلوك المستقيم.
والتصور الصحيح لا يتحقق إلا بمفهوم صحيح لقيم الإسلام وتعاليمه وأفكاره؛ لأن الإسلام يختلف عن الشرائع الأخرى والأديان الوضعية.
فإذا كانت بعـض الشـرائـع والأديان تبيح ما لا يبيحه الإسلام فهذا ليس ملزماً للفن الإسلامي. هناك من الشرائع والأديان والعقائد الوضعية ما يبيح النظرة المزدوجة للإله أو الوثنية، أو ما يجعل العلاقات البشرية تقوم على العنصرية أو الطبقية أو الاستغلال، وهذا لا يمكن قبوله أبداً في الإسلام.
لا شك أن العلمانية من خلال الدراما تفكك المجتمعات، وتفكك الأديان وتحقّر القيم الطيبة، وتعلي من شأن القيم السلبية، وتؤسس لمجتمعات الغابة بما فيها من مكر وخديعة وتوحش.. وهذا كله مخالف لمنهج الإسلام.
البيان: لو أخذنا فلسفة الفن خلال نصف القرن الماضي نموذجاً لتبين لنا مدى التجني والخبث العلماني في التدرج نحو هذا التفكيك.
■
د. حلمي القاعود:
إذا نظرنا إلى ما يمكن تسميته بفلسفة الفن عبر نصف قرن مضى فسوف نجد أن هذه الفلسفة تنحصر في عدة نقاط، لعل أبرزها ترسيخ النموذج الأوروبي، وتأييد الثقافة الشمولية الاستبدادية، والتأكيد على تقويض المشروع الإسلامي.
وليس من شك أن النموذج الأوروبي بوصفه النموذج الأقوى المنتصر على بقية شعوب العالم، جعل الفنون الدرامية تلهث وراء الاحتفاء به وتقديمه بصورة مباشرة أو غير مباشرة، من خلال رؤاه وتطبيقاته، وعاداته وتقاليده، بل وتقاليعه في الزي والسلوك والعلاقات البشرية؛ ولسوء الحظ فإن النموذج الغربي الذي تعد أوروبا خير مثال له، خرج من الحرب العالمية الثانية فاقد الإيمان، محطم الروح الدينية، وإن كانت روحه الصليبية أو الإلحادية لما تزل قوية للغاية، فقدم للعالم وهو المنتصر العديد من النظريات والتصورات التي تصب كلها في خانة المادية والفردية والعنصرية والاستعلاء مما دعم التوجه العلماني بصورة غير مسبوقة في الغرب؛ لدرجة السماح بحقوق الشواذ جنسياً في بعض البلدان والاعتراف بزواجهم من نظرائهم، وقامت السينما بالتعبير عن ذلك صراحة ومباشرة في العديد من الأفلام.. وكذلك المسرح والمسلسلات التليفزيونية.
وإذا كان علماء الاجتماع يذهبون إلى أن الضعيف أو المهزوم يتأثر بالمنتصر أو القوي، ويسعى إلى تقليده، فإن الفن الدرامي في البلاد الإسلامية تأثر إلى حد كبير بالنموذج الأوروبي أو الغربي وقلده في كثير من تصوراته وتطبيقاته، لدرجة أن صورة المنزل الإسلامي في معظم الأفلام العربية ـ مثلاً ـ لا تخلو من «بار» أو ركن لتقديم الخمر وشربه، كما أن معظم البيوت الإسلامية في هذه الأفلام لا تجد غضاضة في الرقص المختلط على أنغام الموسيقى الأجنبية.
وهذا التقليد أو هذا «التأورب» الذي صنعته الدراما العربية جعل من تأييد الثقافة الشمولية الاستبدادية أمراً يبدو طبيعياً؛ فقد انتفت من وجدان القائمين على الفنون الدرامية المرجعية الإيمانية أو الإسلامية؛ مما جعل مناصرة الطغيان والاستبداد والظلم تبدو مسألة عادية لا تثير شبهة أو ريباً.
وإلى جانب هذا فقد عرفت المنطقة العربية ألواناً من النظريات والرؤى التي تعارضت مع الإسلام وتصوراته، ودعا لها أصحابها بقوة السلطة والسلاح، وسخرت لها أجهزة الدعاية والمؤسسات الثقافية التي تحتكرها الدولة عادة، ومن ثم وجدنا ترويجاً لهذه النظريات والمذاهب الـتي تــقوم علــى مرجعية علمانية لا تضع في حسبانها أية أهمية بالنسبة للدين.
صحيح أنه كانت تبرز بين الحين والحين معارضات خافتة حيناً، وحادة في بعض الأحيان لمثل هذه الطروحات، ولكن الإلحاح عليها، وتقديمها في أطر غير مباشرة في أحيان كثيرة جعل وجودها يبدو أمراً طبيعياً، مما أخمد روح المقاومة، ووجه اهتمامات الناس إلى ما يمكن تسميته بالإشباع المادي وحسب، والابتعاد إلى حد كبير عن المطالبة بالإشباع الروحي.
ومن ثم فإن تقويض المشروع الإسلامي لإنهاض المجتمعات العربية والإسلامية كان غاية رئيسة في الأعمال الدرامية، بل وصلت الأمور إلى التشهير بالرموز الإسلامية، وتصويرها على أنها العائق الأول والأساسي في عمليات النهضة والتحديث.
الشخصية الإسلامية في الأعمال الدرامية غالباً ما تأتي نقيضاً للشخصية العلمانية؛ فالأولى يرمز لها عادة بالمأذون ومدرس اللغة العربية وإمام المسجد والدرويش والمتدين الملتحي، وتجعل منها في الأغلب الأعم شخصيات فصامية، أي تقول غير ما تفعل، لها ظاهر يبدو براقاً وباطن خبيث، هي طيبة في الشكل شريرة في المضمون، وفي أحسن الأحوال فهــي شخصية ساذجــة بلهـاء أو أنانية انتهــازية لا تراعي الذوق العام ولا السلوك المتحضر.
في المقابل تمثل الشخصية العلمانية الإباحية المتحررة صورة جميلة في الشكل والمضمون معاً، يرسمها المخرج بصورة تجعلها محبوبة من الجمهور أو يرتاح إليها الجمهور، ويتعاطف معها حتى في انحرافها وسلوكها غير الطبيعي أو القانوني، علاقاتها غير الشرعية أو غير القانونية تبدو مسألة مبررة وسائغة، وتركز معظم الأفلام على فكرة الإشباع دون مراعاة لمفهوم الحلال أو الحرام؛ ومن ثمّ فالبطل الذي يمارس علاقات محرمة لا يشعر بأي تأنيب للضمير أو إحساس بالإثم؛ لأن الأمر في مفهومه عادي وطبيعي ولا حرج فيه، وقد شهد العقد الأخير من القرن العشرين حملة درامية عنيفة ضد الإنسان المسلم، وتم تصويره في حالة مشوهة ومنفرة تثير السخط والغضب؛ حيث بدا أفاكاً ودموياً ولصاً وانتهازياً وعدواً للفرح والبِشر!
لقد كان يمكن للفن لو أنه وضع رسالته الحقيقية في الحسبان، أن يساعد على تنشئة أجيال واعية بماضيها وحاضرها، ومستعدة لمواجهة المستقبل وفقاً للتصور الإسلامي الناضج، ولكنه للأسف الشديد بدلاً من ذلك صاغ شخصيات مجوفة، خاوية من العقيدة والانتماء والاتزان.. صحيح أن بعض الأعمال يمكن إدخالها في السياق الإيجابي، وخاصة ما ارتبط بالدراما التاريخية والشخصيات الساطعة، ولكنه في المجموع العام وفي مجال الأفلام السينمائية التي ساعد التليفزيون على عرضها وانتشارها حدث تشويه عام للشخصية الإسلامية، وتنفير منها، وازدراء لها، ثم كانت الطامة الكبرى بتشويه الإسلام نفسه وعَدِّه قريناً للإرهاب والظلام والجمود والتشدد والتخلف ومعاداة التطور والحضارة.
ومن ناحية أخرى نلاحظ أن مستوى اللغة الدرامية في بدايات نصف القرن الأخير، بل وفي النصف الأول منه، كانت تتميز بالوضوح والدقة والرقيّ، ولكنها في العقود الأخيرة أخذت طابع الغرابة والابتذال والافتعال، وامتلأت بكثير من مفردات البذاءة والسباب والسوقية بوصف ذلك تعبيراً عن الواقعية في الأداء، ويمثل حالة من الصدق في نقل أحوال المجتمع، ولذا فإن ما نراه اليوم في لغة الشارع يمثل صورة من صور التردي غير المسبوقة في تاريخنا الاجتماعي بسبب التأثير الذي لا يمكن إنكاره للدراما السينمائية، وخاصة في عصر ما يعرف بسينما المقاولات.
■
د. عبد العظيم المطعني:
الدكتور الخولي والدكتور القاعود وضعا لنا تأسيساً متيناً نستطيع أن نسير عليه بكل سهولة في مسائل تطبيقية عن استغلال الفن ليس في العلمانية وحدها وإنما في جميع الأيديولوجيات المعادية للإسلام واتخاذه وسيلة للتشكيك فيه ـ بجعله مطلباً استراتيجياً دائماً ـ أو القضاء عليه إن أمكن.. وقد يئسوا من الثانية؛ لأنهم كلما ضربوه ضرباً يقدرون أنه يفضي إلى الموت يجدونه يتحرك عملاقاً، لكن الذي لم ييأسوا منه هو التشكيك فيه، أو عزله عن بعض الفئات المسلمة غير المحصنة.
إضافة إلى ما قاله الأخوان حول اختيار الفن؛ لأن الفن فيما أعتقد هي لغة جميع الطبقات وجميع الأعمار، تصل بكل سهولة إلى البيوت، ويتفهمها الجميع ويتفاعلون معها؛ لأنهم يتفاعلون معها بكل حواسهم، وهنا يمكن أن يتقبلوا ما يهدم الإسلام.
أضرب لذلك مثالاً برواية (أولاد حارتنا).. ففي النصف الثاني من القرن العشرين اشتدت عندنا وطأة الفن الإلحادي، وكان الذين يريدون ضرب الإسلام أذكياء وجبناء، وقد وضح ذلك في عدة أعمال منها (أولاد حارتنا) هذه القصة من قرأها بوعي وجد أن كاتبها قد وضع فيها بكل دهاء ما يريد أن يقوله في المستقبل؛ لأنه لا يستطيع أن يصرح بما يريد في بلد كمصر؛ إذ تحاول القصة بمكـــر إلغاء التاريخ النبــوي كله ونفــي وجود الله ـ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ـ وقد قسم قصته إلى سبعة فصول تحدث فيها عن «جبلاوي» فوصفه بما يوصف به البشر وبما لا يوصفون به، وبدؤه بهذا لأنه أراد أن يمحو العقيدة؛ لأنه إذا محا هذا الصرح القوي سهل بعده اللعب في أي شيء، ثم تناول بعدها في بقية الفصول إدريس «إبليس»، وآدم «أدهم»، وجبل «موسى»، رفاعة «عيسى»، وقاسم «محمد» ثم تحدث عن عرفة «العلم الحديث»، وانتهت الرواية بأن العلم الحديث هو الإله الوارث لكل الفكر الديني؛ فلا شرائع ولا وحي وإنما العلم المادي بقوانينه قادر على تفسير الحياة وتدبير أمورها. هذا نموذج للممارسات العلمانية التي اتخذت الفن لهدم التاريخ النبوي كله وهدم العقيدة الإلهية، وأورثت الوجـود لعـرفـة أو للعلم الحــديث، وما فعله هنا نجيب محفوظ فعله غيره في أعمال أخرى. وبنفس الطريقة الخبيثة يجري تقرير كثير من المفاهيم العلمانية عبر الفن.
■
أ - محمود خليل :
هذه السقطة التي سقطها نجيب محفوظ .. سقطها جيل كامل من الروائيين السوريين والمغاربة والمصريين ؛ ف ( أولاد حارتنا ) .. هي ( قنديل أم هاشم ) ليحيى حقي ، و ( انتصار العلم على العقيدة ) .. هي ( نهر الجنون ) لتوفيق الحكيم .. هي ( محمد رسول الحرية الثائر على العبيد ) .. وهي ( الحسين شهيداً والحسين ثائراً ) ... ، كان سقوطاً لجيل كامل ؛ لأن تلك الفترة كانت فترة مد ماركسي ، وكان الدافع الأول كما قال أستاذنا هو التشويش والشغب على العقيدة ليصبح بعد ذلك ما ينادون به واقعاً .
لكن أريد أن أنقل الكلام إلى الفنون المرئية باعتبارها صناعة تكنولوجية معقدة ، وإذا كانت الأقصوصة والرواية المسرحية والعمل الملحمي لها أصول عربية وأصول إسلامية .. فهذا لا نقاش فيه ، لكن الآن أصبحت هذه كمالئات الفراغ ، كالمحتوى للكمبيوتر .. مع دخول الآلة الجهنمية .. ومع دخول رأس المال القوي جداً .. ومع دخول الأيديولوجيات العالمية المنظمة لمثل هذه الألعاب الشيطانية العالمية .. ومع وجود الحكومات الخفية في العالم أصبح الأمر أعقد وأكثر تركيباً وغموضاً مما نظن .
نعم الرواية فن عربي ، والحكاية فن عربي . نحن أمة حكاءة وأمة تتلقى وتحفظ .. وأمة ذاكرتها في التلقي والإمتاع ، والاستماع فن أصيل عندنا ، لكن التوظيف المعاصر والتركيب الذي دخلت فيه هذه الفنون أصبح فناً لا يمكن أن نقول إن لنا فيه ناقة أو جملاً ، نحن نتلقى ، وللأسف نتلقى ، ونعرف أننا نتلقى .. ونعرف أننا ضمن دائرة المؤامرة ، ونحسن التفسير التآمري لهذه الأحداث ولا نصنع شيئاً ؛ لأننا لا نملك أن ندخل الملعب الجهنمي العالمي الذي خطط ووزعت أدواره بعيداً عنا ، ولا نملك إلا أن نكون في مقاعد المشاهدين المهزومين ، ليس هذا إلغاءً لدورنا ولكنه توصيف لواقع نبحث له عن حل مستقبلي ، والحل من وجهة نظري ليس في الخصام ؛ لأنه سيقتحم عليّ ، وسيدخل على الرغم مني .. الآن تم توزيع المناطق غزيرة الإشعاع في المنطقة الإسلامية ، واحتُل الفضاء كما احتُلَّتِ الأرض في اتفاقية : سايكس بيكو ، وسيقتحم الإرسال علينا دون حاجة إلى أطباق .
لا بد أن نبحث عن الحل إذا كنا نريد أن نحيا هذا الواقع ، وأن نعلن تحريراً ولو جزئياً لمعنوياتنا وعقولنا وتربية أبنائنا ، لا بد أن نكون شيئاً في عالم الكبار الذي يرفض الصغار ، ويرفض الأعمال الفردية مهما كانت همة أصحابها .. لا بد من عمل إسلامي عالمي يمثل رأس المال الركيزة الأولى فيه ، وأن تكون الأقمار الصناعية الإسلامية ليس لنقل مباريات الكرة ولا مهرجانات السينما ولا السياحة الترفيهية .
■
د . عبد العظيم المطعني :
أتأذن لي بسؤال تجيب عليه ؛ باعتبارك إعلامياً ؟ قلتَ إنهم هم يملؤون الفراغ ؛ ولو وجدوا فضاءنا مملوءاً لما ملؤوه ... باعتبارك إعلامياً قد يكون المنتج لنماذج فن إسلامي موجود لكن هل تضمن له أن يملأ الفراغ أو يزاحم ما يسمى بالفن وهو ليس فناً ولا أدباً .. ؟ هذه هي مشكلتنا .
■
أ - محمود خليل :
الفنون العالمية تعاني من جدب في النتاج الإنساني الذي يرد الإنسان إلى إنسانيته ، الأفلام الإيرانية حققت نجاحات عالمية من باب التقييم البحت ، وقد رأيت عدداً منها ليس فيها ملاحظة عقدية واحدة ، وهي تعرض لمتطلبات إنسانية بحتة بصورة نظيفة بعيداً عن الإسفاف العلماني . الأفلام الهندية البوذية لأنها أفلام طبيعة وأفلام انطلاق لا تتاجر بالجنس لها مكانتها في عالم الفن (*) . نحن لدينا انتاجنا الأدبي الذي يمكن أن يمثل ذاتيتنا ؛ فعلى سبيل المثال الأستاذ نجيب الكيلاني - رحمه الله - وإن كان للبعض ملاحظات عليه كان يقول : سأموت محسوراً ؛ لأن عملي الذي أبدعته لم يجد تجسيداً إسلامياً يسد تصويرياً ما وقعت فيه إبداعياً ، ولكن للأسف .. رغم ما عرض عليَّ من عروض سخية جداً ، لم أرد أن أقضي نصف حياتي في السجن ، ونصفها الآخر يعبث بها المنتجون غير المسلمين ، أو أن أكون كالجاحظ مع تلميذه ؛ أُملي عليه ما أقرأ .. فيسمع غير ما يقول .. ثم يكتب غير ما يسمع .. ثم يقرأ غير ما يكتب ! فأترك أشياء منسوبة لي وما أنا في شيء منها ! وقد كان أمله قبل أن يموت أن يعد فيلماً سينمائياً يجسد جهاد الحركات الإسلامية المعاصرة ويتركه كأنما هو عمل ملحمي .
البيان : مع الاعتراف بخطر هذه الإشكالية إلا أنه لا يمكن التغاضي عن الأعراف العلمانية التي تفرض فرضاً سواء في مجال الإنتاج أو حتى في مجال الترويج والتوزيع ؛ لأن الحرمان العلماني الذي يقاسي منه الإسلاميون اليوم لا يكاد يقاربه شيء إلا الحرمان الكنسي الذي عرفته القرون الوسطى ، وهذا الأمر يشكل هاجساً ملحاً إن لم يكن في مجال الإنتاج وهو حاضر ملحّ ففي مجال التسويق والترويج والتوزيع .
■
د . حلمي القاعود :
للأسف ، فإن جهود الإسلاميين في مواجهة هذا الواقع الفني المتردي كانت محدودة للغاية .
■
أ - محمود خليل :
في مصر توجد 16 هيئة علمية لتدريس الفنون ليس بينها واحدة تتبنى النظرة الإسلامية ، إذا كنت أعتبر أن السينما يمكن أن تصبح وسيلة من وسائل الدعوة المعاصرة ؛ فعليَّ أن أشجع الإبداع الذي تحمله صناعة وعناصر موهوبة ، وأن أقدم سينما في مواجهة سينما .. ومسرح في مواجهة مسرح ، ونحن لا نملك إلا ما نقوله !
■
د . إبراهيم الخولي :
بداية ليسمح لي الأخ محمود أولاً بملاحظة جديرة بالانتباه ؛ أقول : إن هناك فرقاً مبدئياً بين موقفنا وموقف الغرب في المجتمع العلماني .
المجتمع العلماني نفض يده من الالتزام بحرام أو حلال نفضاً كاملاً من نقطة البدء الأولى على مستوى النظم والشعوب ؛ يقول بريجنسكي مستشار الأمن القوي الأمريكي السابق في كتابه ( الانهيار ) : « نحن أصبحنا مجتمع إباحة الاستباحة ؛ الفرد في الولايات المتحدة استباح كل شيء ، ولم يعد في قاموسه كلمة حرام أو محرم ؛ وبهذا لا تستقيم حضارة ولا تستمر . السفينة كلها تغرق ولا يملك أحد إنقاذها ! وإنقاذها مرهون بالعودة إلى الدين والأخلاق ! » . أما نحن فللأسف الشديد في موقف التبعية ولا نستطيع أن نفطم أنفسنا عنه .. « لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر ، وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم . قلنا : يا رسول الله ! اليهودُ والنصارى ؟ ! قال : فمن ؟ » [1] .
الإنسان في الغرب عبد نفسه وأحل نفسه محل الله ، وأصبح هو مصدر كل شيء ومحور كل شيء ومعيار كل شيء ، دستوره من وضعه .. الأخلاق نسبية ، وهذا ما يردده بعض وزرائنا اليوم .
ثم الغاية تسوِّغ الوسيلة .. الإنسان حر في أن يعيش وجوده ، وأن يعبر عن هذا الوجود كما يريد دونما قيد عليه !
على هذا علينا أن ندقق فيما نقول .. فماذا نعني بسينما إسلامية ؟ وهل يمكن أن نواجه سينما بسينما ؟ كيف يتم هذا دون اقتباس من المجتمع الغربي العلماني الذي لا يصلح مطلقاً أن يكون نموذجاً ولا مصدراً للاقتباس أو المحاكاة لمجتمع مسلم ما زال يلتزم بالإسلام شعباً وجماعة وإن انحرف النظام ؟ هذا إلى جانب ما تتحدثون أنتم عنه كإعلاميين من أن العالم اليوم أصبح قرية أو ربما غرفة ، كيف لي أن أنافس في ظل عالم مفتوح ؟
■
أ - محمود خليل :
السينما الإيرانية - بغض النظر عن موقفنا من المذهب الشيعي - استطاعت أن تقدم فناً راقياً دون أن يقع فيما يمارسه الفن العلماني بصورة نالت إعجاب الغرب نفسه ، ودون تلبُّس بما تعتقده من عقائد تخالفنا نحن أهل السنة ، وهي في هذا مثال يمكن احتذاؤه . الأفلام الهندية كذلك ؛ لأنها أفلام طبيعة ولا تعرف العنف والابتذال اللذين تعرفهما السينما الغربية .
وإذا كان الإنسان الغربي قد بدأ ينتابه الملل من هذا التكرار الشديد ، والبعض يعترف بأنها أزمة يحياها الفن الغربي باختلاف مدارسه وتياراته وهي ظل لأزمة الفكر التي يحياها التيار العلماني بعامة اليوم ؛ فإننا يمكننا بما نملكه من مقومات - متاحة دون أن تستغل - أن ننافس وبقوة .
البيان : ربما نختلف معك فيما يتعلق بالأفلام الإيرانية والهندية ، فهي إن صحت سلامتها من الإسفاف الأخلاقي ، إلا أنها لا تسلم من إشكالات عقدية ومنهجية كثيرة .
■
د . إبراهيم الخولي :
بالنسبة للأفلام الإيرانية لو اتفقنا على ما يقال حولها من انضباط ؛ فإن مسألة الاستمرار مسألة مشكوك فيها - وأنا أول الشاكين - في ظل التطور الذي طرأ على المجتمع الإيراني من أيام الثورة ومروراً برفسنجاني وما بعد رفسنجاني ، وبغض النظر عن رأيي في إيران وتياريها ، فإن تيار الإصلاح يمحو كل ضوابط الثورة .
إذن مسألة الاستمرار مسألة فيها نظر ، وخاصة أن العوامل التي تأبى الاستمرار أقوى من أن يقاومها المجتمع الإيراني وغير المجتمع الإيراني .
أما الفن الهندي فقد نشأ في أحضان الديانة الهندية التي لا تقبل هذا اللون من الفجور الغربي ولا تعرفه ، بل وليس ذلك من مطالب الإنسان الهندي وفلسفته في الحياة .
وكيف لنا بإنجاح مبدأ سينما في مواجهة سينما مثل هوليود التي تنفق على الفيلم قرابة نصف مليار دولار أو يزيد ؟ ! المنافسة هنا أراها غير منطقية ؛ لأن هاجس الربح لا يزال ملحّاً لدينا !
عملية الغزو مستمرة وستستمر ، ونحن في كل يوم نفقد من أدوات المواجهة بقدر ما يزدادون هم في قدرة الهجوم ، هذه المعادلة لا ينبغي أن نخطئها ! حين تنتشر الأوبئة وتعم حرب الميكروبات ؛ فإن العلاج تحصين الناس في وجه العدوى ، والمشكلة الآن أننا لا نحصِّن المسلمين في بيئاتٍ الإنسان فيها معرضٌ لأن يصاب بكل الأوبئة من حوله ! الأوبئة الآن لا تأتي عفوية ؛ وإنما ترسل إلينا إرسالاً .
إذن القضية ليست أن أحاكي الغرب ، وأن أستخدم أسلحته بنفس القوة التي يستخدمها ؛ لأن السلاح نفسه ذو حدين . القضية الآن أننا نواجه عدوى دون تحصين ، وهجوماً دون مقاومة ؛ فقد أضحينا جسماً يتعرض لكل أسباب الإصابة دون مناعة ، فعلينا أن نفكر !
■
د . المطعني :
كيف تكون المواجهة من هذه الزاوية وأنت ترفض بدائل الأستاذ محمود ؟
■
د . إبراهيم : نعم أرفضها .
■
د . المطعني : ماذا نصنع في ظل الخطر القائم فعلاً مما سمي بالغزو الفكري لهذه القضية ثم الغزو الأخلاقي ثم الغزو العقدي ؟ وعلى حد تعبير الشيخ الغزالي - رحمه الله - : « إن الغرب نظر إلى الشرق الإسلامي فاتخذ منه مثل ما يتخذ من المصارف الصحية : يطرد من هناك النفايات والمياه العفنة لتتسرب فينا » . نحن نملك وسائل المناعة نظرياً ، ولكن لا نطبقها عملياً كما يقول الشاعر :
كالعيس في البيداء يهلكها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول
والتطبيق العملي له منبعان :
الأول « الشعوب » : وتبدأ الشعوب بالأسرة .. وتبدأ الأسر بالآباء والأمهات ، ونحن ندرك للأسف الشديد أن كثيراً من هؤلاء يحاولون تربية أبنائهم تربية إسلامية ، ولولا هذا الصنف لأخذ الإسلام رحله وخرج من كثير من ديارنا .
المنبع الثاني « الدولة » : والمفترض في الدولة ألا تسمح بما يبدد عقائد الأمة ويبدل أخلاقها ، وكي نتجنب هذا الخطر فعلى الدولة أن تتبنى مشروعاً إسلامياً أعلى بإخلاص ، وتضع الخطط لرعاية هذا المشروع لتنميته ؛ لا نطلب بأن تتحول الدولة فجائياً وإن كنا نطمح إلى ذلك لتتبنى مشروعاً إسلامياً كاملاً يبنى من خلاله المجتمع على منهج الإسلام ، وعلى أقل تقدير ألا تسمح لنفسها أن ترى في المجتمع ما يدمر شخصية المسلم ، هذا بالدرجة الأولى ، وأن تضرب على يد الذين يكرهون ما أنزل الله ، ولا تسمح لهم بأن يطلعوا شعوبنا الإسلامية صباح مساء على ما يزهدهم في الإسلام ويبعدهم عنه .
هاتان خطوتان لا بد منهما .
وعموماً نحن علينا أن نهيئ الأرض ونضع البذرة ؛ أما الإنبات فعلى الله تعالى .
■
أ - محمود خليل :
لعل الدكتور الخولي يرى أن المناعة هي الحل الوحيد .
■
د . إبراهيم الخولي :
لا بل هي الحل الأول .
■
أ - محمود خليل :
المناعة والتحصين هذه ضرورة شرعية سواء كان هناك عدو منتظر أو غير منتظر ..
لكن ماذا نصنع إذا كان هذا العدو قد احتلنا على الرغم منا ، ولا نملك مناعة لا من فيروسات هذا العدو التي لا تقف عند طور ، ولا تحدها حصانة أو مناعة معينة ، ولا يحدها الحجر أو العزل الصحي ونحن لا نملك حتى مفهوم : « فِرَّ من المجذوم فرارَك من الأسد » ؟ ولو أن الفرار من هؤلاء يجدي فتيلاً لفررنا . الآن يكاد ألاَّ يخلو بيت من جهاز استقبال في زمن احتلت فيه السماوات كما احتلت الأرض .
والسينما باعتبارها من الوسائل العصرية تأتي ضمن هذا المسلسل لا نقول الجهنمي إلا لملئه بمحتوى فاسد ، وكون الحرام غلب عليها فحرمناها ، هذا لا يعني عدم إمكانية استغلالها كأداة من قِبَل المصلحين . ولعل هذه الحساسية من السينما موروثة منذ أن جاءت السينما إلى بلادنا في عام 1897م ، وليس غريباً أن أول ما قامت بتقديمه جماعة أجنبية في سينما بجوار حمام سباحة للعراة ! يعني من أول يوم يعلنون أن بضاعة العلمانية الجسد الرخيص ! لكن تبقى الوسيلة بعد تصفيتها وتحليتها وسيلة مشروعة .
البيان : هناك تعليق معبر للمنفلوطي - رحمه الله - في ( نظراته ) بمناسبة أول عرض مسرحي قدم في القاهرة ، وهو شهادة مهمة على عصره يقول : « كان الشر مفرقاً في البلاد فجاء كشكش فجمعه في مكان واحد » .
■
أ - محمود خليل :
نعم .. ولعل هذا الفساد بل الإفساد من أول يوم هو الذي أوجد هذه الحساسية لدى الشباب المسلم ، وحاول بعض المصلحين أن يرشِّدها و يستثمرها في إيجاد نموذج للإبداع الصحيح . ويظل بعد ذلك السؤال المفتوح لنا : ما الحل ؟
البيان : تبقى احترازات الدكتور الخولي لها وجاهتها وخاصة أن تجارب عدد غير قليل من الذين اعتزلوا الفن قد انتهوا إلى غير ما بدؤوه حين اعتزلوا ، وهو أمر يدعو إلى التريث وإعادة تقويم الأمور .
■
أ - محمود خليل:
مسألة الحرام خارجة تماماً عما نطرحه من تصور لعلاج هذه المشكلة .
البيان : لكن المشاكل تظهر دائماً في التطبيق ولم تنتف بعد ؛ ولذا ينبغي الحذر والاحتراز .
■
د . عبد العظيم المطعني :
الدكتور إبراهيم يرى الاحتراز ليس حلاً ، وإنما تجنباً للشر .. أما المناعة فتنبت من داخل الإنسان نفسه ، هناك فرق بين الأمرين . هناك حلان : حل سريع وهو المنع من الخارج ؛ والثاني أنه بعد منع الخطر لا يمكن أن نترك الإنسان في حالة ضعف ؛ إذ لا بد أن نمنحه قوة ليتقي بنفسه الشرور .
البيان : لكن الفن وإن تزايدت الحاجة إليه باعتباره وسيلة من وسائل الحماية والبناء يبقى الوضع القائم له كمؤشر عليه ، إلى جانب الخلاف الفقهي في مسألة التمثيل التي تجعل المرء أكثر حذراً في التعامل ، بل ربما احتاجت ممارسة الفن إلى مزيد من التحصين المسبق والمستمر ، بحيث تبقى المعضلة الكبرى هي إيجاد فن هادف ملتزم بالضوابط الشرعية التي تطلق الإبداع في مجال البناء وتكفه عن مجال الهدم .
■
د . إبراهيم الخولي :
دائما يجب أن يوضع في الاعتبار أننا حين نتحدث في ظل مجتمع يلتزم بشريعة الإسلام ، ويلتزم بالحكم فيه بهذه الشريعة يختلف عما إذا كان حديثنا عن مجتمعٍ النظامُ فيه علماني والشريعة معطلة ؛ لأن ضمانات ألوان النشاط في المجتمع في مثل هذه الحالة أنت لا تملكها ، ومن ثم يصبح التجريد كلاماً بغير إنتاج ، أنت ضربت مثلاً بإيران .. إيران بعد مرحلة من مد الثورة وعنفوان التشدد والحمية بدأ التحلل من كثير من الضوابط بغض النظر عن رأينا فيها ، وأنا أعتقد أنه لو استمر الوضع في ظل الحكومة الحالية فإن المسألة ستختلف بعد 5 سنوات اختلافاً كبيراً جداً عن الصورة التي رآها الناس عندما كانت الثورة مهيمنة على كل شيء في توجيه المجتمع الإيراني . هذا الأمر لا يخص إيران فقط وإنما يمتد لمجتمعات سُنِّية عرفت بالمحافظة لفترات طويلة .
ولهذا أقول إن الفتوى مرتبطة بزمانها ومكانها وملابساتها ، وليس يجوز أن أحلل الفتوى من قيود الواقع ؛ إذن وجود نظام بالمفهوم الصحيح وحكومة مسلمة ملتزمة بشريعتها لا تعطلها ولا توقف جزئية منها هذا الأمر أو عدمه يضع قيوداً عليَّ حين أعالج قضية كقضية الفن الإسلامي .
■
أ - محمود خليل :
العمل على إيجاد النظام الإسلامي المتكامل يحتاج لجميع الوسائل المشروعة ، والتي منها الفن المنضبط بالضوابط الشرعية ، والتي ما زلت أرى إمكانية بروزه واكتساحه متى وجد .
■
د . عبد العظيم المطعني :
بمناسبة ما يقال عن الفتوى فإن الفتوى الأخيرة التي أفتى بها البعض بجواز ظهور الصحابة عدا العشرة المبشرين بالجنة على خشبة المسرح وفي التلفاز تطرح إشكالين كبيرين :
الأول : حول الجهة التي أصدرت الفتوى وكون فتواها غير ملزمة لعدم انضباط الحكم فيها ؛ إذ لا فرق بين العشرة وغيرهم من هذه الجهة .
الأمر الثاني : وهو الإلحاح العلماني المتواصل في تكسير الثوابت الشرعية وهزها ، وقد نجح بعد حين في استصدار الفتوى ومن ثم توظيفها في إسقاط الضابط الشرعي ، ولكن هذه المرة تم اسقاط الضابط باسم الإسلام . وانظر كيف يأتون بإنسان شرب الخمر ليمثل خالد بن الوليد أو ابن عباس - رضي الله عنهما - [
■■
] ؟ !
الحصاد
البيان : الناظر في أحوال المجتمعات الإسلامية لا يمكنه أن يغفل أثر الفن المعلمن في عملية التفكيك سواء على مستوى الفرد الذي أصبح يحيا بين غريب ومتغرب وازدواج ، أو على مستوى المجتمع الذي بدأ بتغيير كبير في بعض أنحائه ، وبثنائية ثقافية أقرب إلى الصراع منها إلى التعايش .
■
د . حلمي القاعود :
هكذا يبدو تشكيل الشخصية في المجتمع المسلم وفقاً للمفاهيم العلمانية يصب في خانة سلبية ، وفي السنوات الأخيرة ، راح صناع السينما والمسرح يقلدون ما يجري في أوروبا و أميركا تقليدًا شبه كامل ، وينتجون أعمالاً مطابقة للأعمال الأوروبية والأمريكية ، مع تغيير الأسماء والأماكن فحسب ، فحفلت أعمالهم بالعنف والجنس والعبث والتفاهة واللهو بألوانه المختلفة ، مما جعل شبابنا العربي المسلم يقلد أبطال هذه الأعمال في الملبس والسلوك والفكر ، ولأول مرة نواجه جيلاً لا يشعر بالانتماء إلى وطن أو قومية أو دين .. شباب متغرِّب لا يجد غضاضة في احتقار هويته والإشادة بالآخرين .
البيان : بشهادة إحدى ممثلات الإغراء ؛ فإن حصيلة الأفلام السينمائية خلال الخمسين عاماً الماضية بلغ 3000 فيلم ؛ نصفها على الأقل أخذ السيناريو فيه كاملاً بمشاهده وأحداثه من فيلم أجنبي ، هذه الشهادة تجلي بمرارة قدراً من الجرم العلماني في هذا المجال .
■
د . حلمي القاعود :
ثم - وهو الأخطر - مدى التأثير الفادح الذي وقع على الأسرة المسلمة ؛ حيث أخذ الشباب والفتيات يقلدون النماذج الدرامية في العلاقات والسلوك مما أدى إلى شيوع العزوبة والعنوسة والتفكك الأسري .. صحيح أن المسألة لم تصل إلى المستوى الذي يحدث في الغرب ، ولكنها ستصل إذا لم تحدث مواجهة إسلامية جادة وعاقلة .
لقد دخل إلى مجال الفن بعض الأفراد المدعومين غربياً ، وخاصة من فرنسا ، مهمتهم الأساسية تشويه التاريخ الإسلامي ، وتقطيع الروابط التي تربط بين الأمة الإسلامية ، وتجعل من المحتلين الغزاة أو المستعمرين الغربيين رسل حضارة وتنوير وتقدم .. وقد أشرت في كتابي : « أهل الفن وتجارة الغرائز » إلى هذه النقطة بتوسع ، وسأكتفي هنا بضرب مثال حول صلاح الدين الأيوبي بطل تحرير القدس و فلسطين فقد صوّره أحد الأفلام في صورة « الكاوبوي » ، و « زير النساء » ، و « رجل الأعمال الغامضة » الذي يحقق انتصاراته بطريقة مريبة ، مع أن صلاح الدين كان رجلاً زاهداً عابداً فقيهاً بالشريعة مخلصاً لربه ودينه ، واضحاً كل الوضوح حتى مع أعدائه الذين حاربهم أو هادنهم ، وكان مثالاً للخلق الإسلامي الكريم في أرقى صوره ونماذجه ، ولولا ذلك ما حقق انتصاره التاريخي الذي أشاد به الأعداء قبل الأنصار !
ينبغي أن نشير إلى نقطة مهمة ، وهي دور الدراما ، وخاصة المسرح في نشر النظريات والدعوات المعادية للإسلام والتدين بصفة عامة ؛ فقد استطاع الماركسيون والوجوديون والعدميون والعبثيون أن يتخذوا من المسرح تكأة يروجون من خلالها لأفكارهم وتصوراتهم ، وفي الوقت ذاته كان هناك تعتيم أو إقصاء لكتَّاب المسرح الذين يتبنون مواقف إسلامية أو قومية تنطلق من تصور إسلامي ؛ كما حدث مثلاً مع الكاتب الشهير الراحل « علي أحمد باكثير » الذي خصص معظم إنتاجه المسرحي لمعالجة القضية الفلسطينية من منظور إسلامي ، ولكنه للأسف تم التعتيم على إنتاجه وإزاحته من خشبة المسرح ، ليخلو المكان لدعاة الشيوعية وأشباههم من العلمانيين .
ثمة ملامح عديدة يمكن الحديث عنها في إطار تناول الحصار الفني للدراما على مدى نصف القرن الأخير ، ولكننا سنكتفي بملمح واحد فقط يتناول الجانب اللغوي .
ومن ناحية أخرى ؛ فإن انتشار التليفزيون وتعدد قنوات الإرسال القُطْرية من العواصم العربية ، دعا هذه العواصم إلى محاولة إشاعة لهجاتها الإقليمية والمحلية ، مما كان له تأثير ما في تكريس الإقليمية ، ووضع عقبة جديدة ضد التقارب القومي ، وهناك مسلسلات وتمثيليات يصعب فهمها ؛ لأن لهجتها المحلية تستغلق على المشاهد الذي لا ينتمي إليها .
ومهما يكن من أمر ؛ فينبغي أن نشير إلى أن بعض شركات الإنتاج ومؤسسات التليفزيون ذات التوجه الإسلامي أخذت على عاتقها إنتاج بعض الأعمال الملائمة التي لا تتعارض مع التصور الإسلامي سواء كانت تاريخية أو واقعية ..
وهذا يستدعي أن نشد من أزرها بالكتابات الدرامية الجيدة التي لا تتنافى مع قيمنا وأخلاقنا ، وأن نشجع على التوسع في إنتاج الأعمال المؤثرة والمفيدة والجذابة التي تجمع بين صفاء التصور وقوة الأداء . والأعمال الجيدة قادرة بذاتها على الاستحواذ على الجمهور الذي يسعى إلى المثل العليا والقيم الفاضلة والأخلاق الرفيعة .
إذا كانت الهيمنة الكنسية ومظالمها البشعة من الأسباب الرئيسة في ازدهار العلمانية وانتشارها في أوروبا ؛ فإن العلمانية لم تحقق للفرد الأوروبي أو المجتمعات الأوروبية والأمريكية تبع لها الاستقرار النفسي أو الإشباع الروحي ؛ ذلك أنها منحت الفرد والمجتمع على السواء الإشباع المادي وحده ، ونتيجة لذلك انهارت قيم المسيحية العليا ، وسقطت المرجعية الدينية بالنسبة للسلوك الفردي أو العلاقات الاجتماعية ، ولعل هذا يفسر كثرة الحروب الطبقية والطائفية والقبلية في أوروبا عقب العصور المظلمة ، ناهيك عن الاستعمار العسكري المباشر ، والثورات الداخلية الدامية .
لقد انسحبت هناك مرجعية العلمانية إن صح التعبير على الفنون جميعاً ، بما فيها الفنون الدرامية ؛ حيث انغمست في التعبير عن العري والانحلال والرذيلة بصورة مكشوفة وسافرة ، وكأنها تدعوه للإباحية والشر والعنف ، وقد ضجت بعض المجتمعات الأوروبية سخطاً وغضباً على بعض الكتَّاب والشعراء كما رأينا في فرنسا حين ثارت الكنيسة على رواية ( مدام بوفاري ) ، وديوان ( أزهار الشر ( لبودلير في القرن الماضي ، ولكن المسألة اليوم تعدت الرواية والديوان المذكورين إلى إنتاج الأفلام الإباحية الصريحة التي تسمى بالأفلام الزرقاء على نطاق واسع ، وأصبحت المرأة تظهر عارية تماماً في العديد من المسرحيات ، كما أصبحت مشاهد الجنس الكاملة موجودة في معظم المسلسلات التليفزيونية .
وقد انتقل إلى بلادنا العربية المسلمة شيء كثير من هذا ، وصار الدفاع عنه يرفع راية حرية الإبداع وحرية التعبير ، وكأن حرية الإبداع أو حرية التعبير تعني إسقاط كل القيم وثوابت المجتمع وعدم مراعاة خصائص الأمة وأخلاقها ومرجعيتها الأساسية .
وقد شهدت السنوات الأخيرة بعض الصراعات بين دعاة العلمانية والمدافعين عن الإسلام حول قضية التعبير بالجسد ؛ سواء في الفنون الدرامية أو الكتابية ، وذهب غلاة العلمانيين إلى ضرورة أن تتحرر الأمة من عقدة الجسد ، وطالب أن تدخل المرأة اللوحة كما تدخل الحمام !
كما انتشرت الكتابات الإباحية مؤخراً عبر الروايات والقصص القصيرة والأشعار والمسرحيات ؛ اختباراً لمدى قدرة المجتمع على تقبل هذه النماذج التي ترتبط عادة بالتجديف والإساءة إلى الذات الإلهية والمقدسات .. وتبنى بعض المسؤولين هذه النماذج وأعلن عن علمانية المجتمع الذي يضم مسلمين وغير مسلمين .
ولكن الأمة في مجموعها عارضت هذا التوجه معارضة فعالة ، ورفضت العلمانية ، وأعلنت تمسكها بدينها ومقدساتها .
إن الفنون الجميلة تهب الناس متعة الجمال والراحة النفسية حين تضع في حسبانها أن تكون فنوناً رفيعة ترقى بالروح وتسمو بالوجدان وتغرس في النفس البشرية قيمة إنسانية عليا ، ولكنها تتحول إلى فن شيطاني خبيث حين تدعو إلى الرذيلة والشر والعنف ، أو تسلخ الإنسان عن هويته وقيمه وعقيدته وأخلاقه .
وللأسف الشديد ؛ فإن معظم ما أوحت به العلمانية وما أنجزته كان مخاطبة الجزء الأسفل من الإنسان ، أي مخاطبة الغرائز دون مخاطبة القيم ، وهي كارثة بكل المقاييس .. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
■
د . المطعني :
الحصاد له جملة وله تفاصيل .. جملته أنهم نجحوا في أن يجعلونا شعباً أوروبياً يعيش على أرض إسلامية أو عربية ، بمعنى أنهم نجحوا في اللعب في تكويننا الثقافي ، وانعكس هذا على السلوكيات حتى على الناس الذين صلتهم بدينهم قوية تجد تأثير الفن عليهم من قريب أو من بعيد ؛ وهذا ما يمكن أن نسميه علمانية السلوك .
دائماً تبقى العقيدة هي الحصن المنيع . نعم قد ينجحون في المستقبل في التأثير في قطاع واسع من الشباب غير المحصَّن ؛ لكن الشباب المحصَّن بالعلم والتنشئة الأسرية الطيبة لا يقع - بمشيئة الله - تحت تأثيرهم . ثم هناك علمانية الأخلاق : التعامل بالربا في البنوك والاقتصاد ، وما نسمع عنه اليوم من زنا المحارم ، والفساد الأسري ، وانفلات المعايير الاجتماعية ، كل هذا انعكاس للتسيب العلماني الذي أوصلونا إليه ؛ حتى أصبحنا اليوم نتصرف ونحن لا نشعر أننا نخدم أعداءنا !
■
أ - محمود خليل :
الحصاد على المستوى العقدي والفكري والاجتماعي والأخلاقي يلخصه قول الله - عز وجل - : ] وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً [ ( الأعراف : 58 ) .
إذا كانت العلمانية تتزيا بأثواب تجددها كل حين حتى لا تَخْلَق ؛ فإن آخر أثوابها الحداثة .. وإذا كانت الحداثة في مجملها : هي الخروج على ما تم تقعيده في المجتمع من أطر عقدية وأخلاقية ولغوية ؛ بمعنى أنها هي التطبيق الفلسفي لنظرية النسبية التي تعني الوصول إلى نسبية الأشياء بحيث تنتفي أي مرجعية وهذا ما تعنيه الحداثة ، أما ما بعد الحداثة : فهي الهجوم على المقنن والمقدس وإنزاله منزلة المدنس إلى الحد الذي وصل فيه التطبيق العملي أن تخرج إحدى المجلات التي عرفت بعدائها للإسلام بملف خاص عنوانه : الله في السينما ! وفي عدد آخر تحت عنوان : حوريات الجنة ! ويصورون أشكالهن وكيفية جلوس الشهيد وحوله اثنتان وسبعون منهن ، وجمالهن وعيونهن وعريهن ! .. هذا هو التطبيق العملي لما بعد الحداثة حتى ننتهي إلى ما قاله أستاذنا الدكتور الخولي ألا تكون هناك حصانة ذاتية ولا مرجعية ذاتية ولا تمييز بين الصواب والخطأ في نفوس الناس ؛ فتنتفي الاستقلالية الذاتية والأهلية الذاتية الإسلامية الخاصة بحيث يصبح المسلم غير مؤهل .
أما على المستوى الفكري والاجتماعي والأخلاقي فهذه تفريعات لشجرة تنبت في أصل الجحيم طلعها كأنه رؤوس الشياطين ؛ لأن الفكرة تنزل اجتماعياً وتؤثر أخلاقياً ، وهنا تحضرني كلمة للشيخ محمد الغزالي - رحمه الله - يقول فيها :
) إن السيل ربما ضرب القمة حيناً بأمواجه لكن في النهاية لا تظفر به إلا الوهاد والمستنقعات (
نجح العلمانيون عن عمد في استقطاب الموهوبين وأنصاف الموهوبين وأعشار الموهوبين في ثلاثة عقود سابقة وعبؤوهم هذه التعبئة الفاسدة ، فأصبح النتاج الروائي والقصصي والمسرحي من فساد إلى فساد .
■
د . إبراهيم الخولي :
النسبية التي تحدث عنها الأستاذ محمود معناها تحديداً أن الأخلاق ليس لها أصل إلهي ، ولا أصل ديني ، وأن الأخلاق بالمواضعة ؛ فما يكون فضيلة اليوم قد يكون رذيلة في زمن .
الدور الذي يقوم به الفن لصالح الغزو العلماني يأتي متضافراً ومواكباً لغيره من أدوات الغزو ؛ وعلى سبيل المثال حين يقول محمد سعيد العشماوي : إن اليهودي المؤمن بالتوراة والنصراني المؤمن بالإنجيل والمسلم كلهم على قدم المساواة في صحة الاعتقاد وفي المصير المضمون أي النجاة ودخول الجنة ! ويقال للشباب المسلم : إن الإسلام لا يكفر أحداً على خلاف ما تنطق به الآيات .. حين يقرأ المسلم هذا الكلام فما الذي يمنعه أن يقبل من منصِّر أن يتنصر ؟ !
البيان : الفن يقدم مثل هذا وأخطر بأسلوب أعمق أثراً .
■
د . إبراهيم الخولي :
هذا ما كنت أبغي الوصول إليه ، نحن نعلم أن الإسلام ليس دين كهنوت ، لكن طبيعة الحياة اقتضت أن لكل شيء رمزياته وظواهره ، ومن هنا نسأل : لماذا شخصية العالم المسلم دائماً هي الشخصية المهينة في كل أجهزة الإعلام وفي كل الفنون ؟ وحين يريدون أن يسخروا من شخصية فإنهم لا يختارون إلا شخصية دينية ! .. ثم أخطر من هذا حين يصبح واعظ المجتمع أحد المهرجين ! .. يسمعه الناس في الصباح يتحدث عن القيم والمثل ثم يرونه في المساء مهرجاً ، هنا تهتز القيم !
في ظل هذا الخلط - وهذا جانب منه - كيف للشباب المسلم الذي لم تعلِّمه مدرسة ، ولم تربِّه أسرة ، ولم تبرز أمامه قدوة صالحة وإن برزت تشوه كيف له في ظل هذا التشتت الذي أنتجته العلمانية أن يقيس الأمور ؟
المواجهة
البيان : في ضوء هذا كيف تكون المواجهة ؟
■
أ - محمود خليل :
أولا : تهيئة عناصر فنية متعددة تنطلق من أرضية إسلامية عميقة وراسخة وشاملة .
ثانياً : ضرورة الاقتناع أن التمويل المتكامل في مجال الفنون أصبح ضمن عناصر التربية الإسلامية التي بدون العمل بها وشغل هذه المساحة ستظل مساحة فارغة ضمن حقل التربية الإسلامية يتقدم غيرنا لملئه .
ثالثاً : ضرورة الإنفاق على مشروع إسلامي عالمي ضمن المنطقة غزيرة الإشعاع لقمر إسلامي يضع له المتخصصون استراتيجية واسعة في العمل ، وهذا مشروع استثماري مادي في المقام الأول قبل أن يكون استثماراً في مجال التربية ، بعيداً عن الأطر الجغرافية والضغوط الحزبية والعصبيات السياسية .
رابعاً : تشجيع فنون الأدب الإسلامي بكاملها ليتوفر المكان الذي يمثل المادة الخام لملء هذه الوسائل الإعلامية التي تحتاج إلى زاد يومي لا ينتهي .
خامساً : الاتفاق على بعض الوسائل اللازمة لنا بوصفنا مسلمين والتي تدخل ضمن وسائل التعبير المباح ، وعدم الانشغال بساحة الفن الواسعة التي لا تعرف لانفلاتها حداً ولا قيداً ؛ وعلى سبيل المثال : النحت والموسيقى لا حاجة لنا إليهما .
■
د . عبد العظيم المطعني :
أركز مع هذا الكلام على التربية بأن نتوجه إلى الآباء لكي تنشأ المناعة مع الطفل منذ نعومة أظفاره ، ولا تعجز الأسرة عن تربية أبنائها تربية عملية .
البيان : لا بل قد عجزت في ظل موجة إفساد لم تعرفها الأمة من قبل ولا في الأندلس .
■
د . عبد العظيم المطعني :
السلوك الإسلامي بين الوالدين داخل الأسرة الملتزمة يمكن إلى حد كبير أن يؤثر في سلوك أبنائها .
ثانياً : مهمة الدعاة أن يكونوا حكماء أشداء رحماء في آن واحد .
ثالثاً : فك الأسر الذي يقع فيه خطباء المساجد الآن في عدة بلاد إسلامية ، والحفاظ على المناهج الإسلامية نقية كاملة دون حذف أو تشويه ، ومن أسف فإن الخطباء الذين حققوا نجاحاً في المجتمع أغلبهم لم يتخرج من مؤسسات علمية شرعية ؛ ولهذا أقول إن هذه المؤسسات حتى في حال قوتها لا تعطي العلم وإنما تعطي مفاتيح العلم ؛ ولهذا فإن إعداد الدعاة لا يقف عند مجرد التعليم الجامعي ، وإنما يبدأ من انتقائهم من وسط أخلاقي طيب ، وأن يكون الداعية مولعاً بمهمة الدعوة وليس مرغماً أو مكلفاً بها ، إلى جانب هذا لا بد من إعطاء الدعاة حصانة كحصانة رجال القضاء ليؤدوا واجبهم بكفاءة ؛ وأعني الحصانة عن المساءلة ؛ لأن الخطيب إذا اعتلى المنبر وأدرك أن قوة ما سوف تحاسبه فسيجبن ، وربما رأى الباطل حقاً والحق باطلاً ، وفي مقابل هذا الحق أن يكونوا في أنفسهم موضوعيين لا يتحاملون على أحد أو يجاملون أحداً لكي يكونوا أهلاً لهذه الحصانة . وعلى الدول كذلك أن تحسّن من الحالة المادية للدعاة .. فهذه الدول عندما أرادت نزاهة القضاء فإنها وضعت لرجاله مخصصات مالية لا يوقع عليها إضافة إلى الراتب الذي يوقع عليه وأكثر منه ؛ بحيث تضمن التفرغ التام للعدل والإنصاف وتضمن له عيشة كريمة ، والداعية حين يجد الكفاية فإن ذلك يعينه ولا شك على القيام برسالته .
ثم علينا أن نعيد حق الشعب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الشارع ؛ بحيث لا يصور هذا على أنه تطرف أو تدخل في حريات الناس ؛ لأن رجل الشرطة اليوم لم يعد يهمه منكر يكون حراماً ، وإنما المنكر عنده ما تحظره الدولة وإن كان واجباً دينياً ، إضافة إلى كون رجال الشرطة غير متواجدين في جميع الأماكن ، هذه الشعيرة ليست حقاً بل هي واجب على جميع المكلفين ، والدولة حين تعترف للشعب بمزاولة هذا الحق فإنه يستطيع أن يقضي على ثلاثة أرباع الفساد المنتشر في الشوارع .
■
أ - محمود خليل :
ألفت النظر كذلك إلى ضرورة التنبيه الدائم على أخطار العلمانية ؛ بحيث لا يتسرب اليأس أو الفتور أو شعور العاملين في الحقل الإسلامي بطول المسافة وبُعد الشقة ؛ لأن التنبيه الدائم تتسلل من خلاله الحصانة الوقتية ، والمواكبة للأطوار الخبيثة للعلمانية .
البيان : نشكر الأساتذة الفضلاء ، ونؤكد في الختام على أن الواجب علينا جميعاً الاهتمام بضرورة التأصيل الشرعي العميق للعمل الإسلامي بكل مجالاته ، والانطلاق من الثوابت العلمية والمنهجية بكل تجرد واتزان ، والحفاظ على الهوية الإسلامية المتميزة المعتزة بدينها وعقيدتها
مشاركة هذا الرد في
Google
Facebook
Twitter
Digg
أنت معجب بهذا.
التوقيع
AbduLraHmN
مشاهدة ملفه الشخصي
البحث عن المشاركات التي كتبها AbduLraHmN