ويعتبر حصار الكوت أكبر فاجعة وقعت لأية حملة عسكرية بريطانية وكتب لهذا الحصار أن يبقى بصفته أكبر هزيمة شهدتها بريطانيا بعد حصار عقيم دام (147) يوماً اضطر فيها (13) ألف عسكري بريطاني وهندي الاستسلام للقوات العثمانية ولم يقف الأمر عند هذا الحد فمن بين (13) ألف أسير حرب الذين استسلموا في الكوت لقي (7) آلاف أسير منهم حتفه في طريق الأسر إلى اسطنبول فيما قتل (23) ألف آخرون في محاولات فاشلة كان الهدف منها فك الحصار عن القوات البريطانية في الكوت.
وصول القوات البريطانية إلى الكوت :
عندما وصلت القوات البريطانية إلى الكوت زاحفة من البصرة حدث اشتباك وتراشق مدفعي بين القوات العثمانية والقوات البريطانية فقرر القائد العثماني نور الدين الانسحاب من سلمان باك وإخلاء المدينة حيث تركت القوات العثمانية المدينة يوم 29/أيلول/1915 فدخلتها القوات البريطانية في نفس اليوم , فاندفعت قوات طاونزند تطارد القوات العثمانية نحو سلمان باك وهناك حدثت أعظم معارك الحرب من حيث أهمية نتائجها حيث كان القتال مذبحة رهيبة اشتبك فيها جنود الفريقين يداً بيد حتى النهاية عندها شرعت القوات البريطانية بالانسحاب نحو الكوت مستفيدة من ظلام الليل والعثمانيون يطاردون البريطانيون وصلت القوات البريطانية المدينة وفي 5/ كانون الأول/1915 قامت القوات العثمانية بتحقيق التماس مع قوات طاونزند وأصبحت قوات نور الدين تطوق المدينة.
قبل القصف المدفعي على المدينة كتب نور الدين القائد التركي إلى طاونزند رسالة يدعوه فيها للاستسلام فشكر طاونزند نور الدين على لطفه ودعوته وانتهى كل شيء. بدأت كل المدافع تصب نيرانها على منطقة لا تتجاوز أربع أميال مربعة إنها الكوت.
وقد أمر طاونزند بهدم بعض البيوت لفتح طرق واسعة تكفي لعبور عربات النقل وتم الاستيلاء على سوق البلدة وقاموا بتحويله إلى مستشفى ونقل إليه مئات المرضى والجرحى وقد عاش أهل الكوت مشقة كبرى في الحصول على الماء لأن قناصة الأتراك يطلقون النار على كل من يقترب من النهر كما عانى أهل الكوت كما هو حال القوات البريطانية من شحة الوقود وكان أصعب الأمور على الأهالي إعداد الخبز وطبخ الطعام وكان نتيجة القصف المدفعي الذي انهال على المدينة من كل زاوية أن قطعت رؤوس الأشجار والنخيل حيث كانت المدفعية التركية تقصف المدينة بمعدل يزيد عن الألف قذيفة يومياً إضافة لقصف الطائرات فكانت تؤدي إلى نسف البيوت وقتل المواطنين.
ولقد جرت معارك ضارية لتخليص حامية الكوت المحاصرة وكان الفريق آيلمر قائداً لفيلق دجلة المكلف بإنقاذه قوة طاونزند المحاصرة في الكوت وحشد آيلمر قواته في علي الغربي فقرر العميد نور الدين العثماني التصدي للقوات التي تحاول فك الحصار عن الكوت وجرت عدة معارك ضارية وهي :-
1. معركة شيخ سعد.
2. معركة وادي كلال.
3. معركة أم الحنة.
4. معركة الفلاحية الثالثة.
5. معركة بيت عيسى والصناعيات.
6. معركة سابس.
وفي هذه المعركة معركة سابس رفع قائد الفيلق التركي العميد علي إحسان شعار (من يحب الله فليذهب إلى سابس) كانت خسائر القوات البريطانية (21000) بين قتيل وجريح ولم تستطيع القوة فك الحصار عن قوات طاونزند.
محاولات إغاثة القوة المحاصرة :
كان آخر المحاولات لإغاثة القوة البريطانية المحاصرة هي إرسال طائرة ترمي المواد الغذائية فسقط قسم منها في شط الحي (الغراف) والقسم الآخر في نهر دجلة.
وعن مراحل الحصار قال الباحث مثنى :
تقسم مراحل الحصار للقوات البريطانية إلى ثلاث مراحل :-
الأولى :- التي تبدأ من اليوم الأول من الحصار وهو 7/ ت1/1915 حيث كانت الأرزاق فيها تعطى للجنود كاملة واستمرت هذه المرحلة (50) يوماً انتهت في 30/ ك2/ 1916.
الثانية :- بدأت من أول شباط واستمرت حتى 9/آذار/1916 فقد أنقصت الأرزاق إلى النصف.
الثالثة :- كانت الأرزاق فيها تكاد لا تكفي إلا لسد الرمق وقد استمرت هذه المرحلة (50) يوماً وشرع الجنود يأكلون الكلاب والقطط حتى نفدت تماماً ولم ينجو إلا كلب القائد طاونزند وكلب الجنرال مليس.
في هذه الفترة أصبحت الملابس رثة ومتسخة بشكل لا يمكن وصفه وأصبح النعاس الناشئ عن الجوع الحاد من الأمور الواضحة فكان كل واحد من الحرس يسقط نائماً سواء كان واقفاً أو قاعداً وتبلدت الأحاسيس وغدت الأفخاذ نحيفة جداً وأصبحت الأصابع بارزة العظام وبدت الأسنان كبيرة وصارت العيون غائرة , وقد كانت النار الخاصة ممنوعة حيث لم يبق وتد واحد لقد قلعت كلها واستعملت وقوداً وصدر القرار التالي (من يلق عليه القبض متلبساً بجريمة سرقة وتد سوف ينفذ فيه حكم الإعدام) وحين بدأت الليالي تبرد أكثر راحت الصلبان الخشبية تسرق من المقبرة لاستعمالها كحطب , مطاعم الضباط نفذ منها السكر والملح وظل لحم الخيل يقدم خال من الملح فيترك مذاقه في الفم وكأنه مادة معدنية , صار الجميع يبحثون عن الحشائش ليطبخوا منه طعاماً شبه ظاهري بالسبانخ فيتحول إلى مادة خضراء اللون سوداء وقد كانت الحشائش في بعض الأحيان تحتوي على أنواع سامة فصدر الأمر التالي للحامية (التوقف عن أكل الحشيش) راح الرجال يتعقبون ويمسكون كل شيء يتحرك على الأرض فيأكلونه بعد قليه بزيت المحركات , كانت السجائر مصدر قلق ولكن من حسن الحظ إن كل ما يحرق يعطي دخاناً وهكذا راح الجنود يدخنون أوراق الشاي وجذور الحطب وأوراق شجر الليمون التي كانوا يسمونها في سخرية فريجينيا معمل الطابوق.
آخر المحاولات الباخرة جلنار :
حاول الإنكليز إرسال سفينة محملة بمئات الأطنان من مواد الإعاشة إلى الكوت لكن خبر إرسال السفينة قد وصل إلى الأتراك من خلال عيونهم وجواسيسهم فلما وصلت الكوت شعر بها حراس الشاطئ وأطلقوا النار بكثافة وسقطت بأيدي الجنود الأتراك عندها استسلمت القوات البريطانية بقيادة طاونزند إلى القوات التركية في 26/ نيسان/1916 دون قيد أو شرط.