20-12-05, 07:15 AM
|
|
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
نظراً لأن القصة تحتوي على بعض الكلمات غير المناسبة وغير المقبولة في ديننا الحنيف، قمت باستبدال بعضها وحذف البعض الآخر. فالمقصود هنا هو توضيح الحدث الكامل وتصوير الشخصية وأرجو أن لا تفسروا طرحي لهذه القصة لأي هدف آخر والآن دعونا نستعرض القصة.
في ضوء القمر:
كان القس مارينيان لديه خبرة طويلة، وذا نفس متسامية (حسب ما يدعي طبعا). وكان طويلاً نحيلاً متعصباً إلى حد ما. ولكنه كان يعامل زملائه باحترام.
وكان أحياناً يتساءل وهو يتمشى في ممر حديقته في البلدة الصغيرة التي يعمل فيها "لماذا خلقنا الله" ويفكر جاهداً ويرضى عن نفسه في بعض الأحيان إذ يجد الجواب. ولم يكن القس "مارينيان" من ذلك النوع من الرجال الذي يهمس في خشوع "إن سبلك يا ربي أعظم من أن تدركها مدارك الرجال" بل كان يقول "أنا علي أن أبذل جهدي في طاعة الله".
وخيّل إليه أن كل شيء في هذه الدنيا خلق بمنطق مطلق جدير بالاعجاب، وأن هناك دائماً توازناً بين الأشياء ومسبباتها، فالشروق يبعث البهجة في نفس الإنسان وهو يستيقظ، وبظهور الشمس تساعد على نضج المحاصيل، والأمطار لترويها، والأمسيات ليستعد للنوم والليل الحالك للنوم. والفصول الأربعة تتفق تماماً وحاجيات الزراعة. وكان من المستحيل أن يداخل الشك "مارينيان" في أن الكون لا هدف له.
ولكنه كان يكره النساء لأنه يعتقد بأن المرأة هي أغوت الإنسان (وهذا اعتقاد خاطئ طبعاً).
وكانت له ابنة أخت تعيش مع أمها في منزل صغير قريب من منزله وكان قد يريد أن يجعل منها راهبة. وكانت رقيقة خفيفة تتعمد إغاظته باستمرار. وكثيراً ما كان يحدثها عن الله، وهو إلى جوارها في الحقول ونادراً ما أنصتت إليه. كانت تنظر إلى السماء والى العشب والى الزهور وعيناها تلتمعان بفرحة الحياة وكانت تجري أحياناً لتمسك بفراشة ثم تعود بها وهي تصيح "أنظر أنظر كم هي جميلة، بودي أن أقبلها".
وفي يوم من الأيام أخبرت مدبرة البيت "مارينيان" أن ابنة أخته قد اتخذت لنفسها عشيقاً.
وعانى مارينيان إحساساً مؤلماً. وقف مختنقاً والصابون يغطي وجهه وهو يحلق وعندما استعاد القدرة على الكلام صاح:
- كذب كذب .... أنت تكذبين يا "مالينا".
ولكن المرأة القروية وضعت يدها على قلبها وقالت:
- ليعاقبني الله إن كنت أكذب يا مارينيان إنها تذهب إليه كل ليلة بعد أن تنام أختك. وهما يتقابلان بجانب النهر. وما عليك إلا أن تذهب إلى هناك ما بين الساعة العاشرة ومنتصف الليل وستراها بعينيك.
وتوقف مارينيان عن حك ذقنه وبدأ يذرع الحجرة بسرعة كما يفعل عندما يستغرق في تفكير عميق. وعندما حاول أن يكمل حلاقة ذقنه جرح نفسه ثلاثة جروح امتدت من الأنف إلى الأذن.
وظل طوال اليوم ساكناً وقد امتلأ غضباً وثورة فإلى جانب كرهه الطبيعي لهذا شعر أن كرامته قد أهينت كمعلم. شعر أن طفلة قد خدعته وسخرت منه وسلبته شيئاً يملكه. شعر بهذا الحزن الذي يشعر به الوالدان حين تخبرهما ابنتهما أنها قد اختارت لنفسها زوجاً دون مشورتهما.
وبعد العشاء حاول أن يقرأ قليلاً ولكنه لم يستطع أن يكيف نفسه للقراءة وازداد غضباً على غضب. وعندما أعلنت الساعة العاشرة أخذ عصاه وهي عصا غليظة من خشب البلوط يحملها عادة حين يخرج ليلاً لزيارة المرضى. وابتسم وهو يرقب العصا الغليظة وقد استقرت في قبضة يده القوية. وأدار العصا في الهواء مهدداً ثم رفعها فجأة وهو يجز بأسنانه وانهال على كرسي فحطم ظهره.
وفتح باب بيته ليخرج ولكنه توقف عند بابه مبهوتا. كان بهاء القمر رائعاً، وأحس بما حوله وشعر فجأة أن جمال الليل الشاحب وبهاءه قد حرك قلبه. وفي حديقته الصغيرة التي سبحت في ضياء باهت عكست أشجار الفواكه ظلالها على ممر الحديقة، أغصان رقيقة من الخشب تكسوها الخضرة ومن الزهور المتسلقة على الحائط انبعثت رائحة لذيذة حلوة علقت كروح عطرة بالليل الدافئ الصحو.
وبدأ يتنفس تنفساً عميقاً. يحتسى الهواء كما يحتسي عاشق القهوة فنجانه. وسار ببطء مبهوراً حتى كاد ينسى ابنة أخته.
وعندما وصل إلى بقعة عالية وقف يرقب الوادي بأجمعه وقد امتد تحت بصره وبهاء القمر يحتضنه، وسحر الليل الهادئ الحنون يغرقه، ونقيق الضفادع يتردد في نغمات قصيرة، والبلابل عن بعد أشجاها القمر فغرّدت.
واستمر مارينيان يمشي وهو لا يعرف لم تخلت عنه شجاعته فقد شعر كما لو كان التعب والإرهاق قد تسربا إليه، وود لو يجلس أو يتوقف حيث هو ليحمد الله على مخلوقاته الجميلة.
وتحت بصره. حول منحنى النهر امتد صفان طويلان من الأشجار وفوق شطي النهر تكونت سحابة خفيفة بيضاء تخللتها أشعة القمر فأضفت عليها لون الفضة وبريقها.
وتوقف مارينيان من جديد وقد نفذ إلى أعماقه شعور قوي متزايد واستولى عليه شك وقلق وشعر أن سؤالاً من الأسئلة التي تلح عليه أحياناً يدور إذ ذاك في عقله.
ما سر هذا الكون، إذا كان الليل للنوم، للراحة، فلماذا كان أكثر سحراً من النهار، وأحلى من الغروب والشروق. وهذا الكوكب البطيء الخلاب الذي يغلب جماله على جمال الشمس، والذي يضيء الكائنات بنور رقيق يستعصي على الشمس .... هذا الكوكب لم يشرق لينير الظلال؟ ولم لا يأوي البلبل الصداح إلى النوم كغيره من الطيور ولم هذا الخمول الذي يغزو الجسد؟ ولم هذا الوشاح الذي ينسدل على الأرض، وهذا السحر الذي لا ينعم الإنسان إذ يأوي إلى فراشه في الليل؟ لمن خلق الله عز وجل هذا الجلال، هذا الفيض من الشعر الذي يتدفق من السماء إلى الأرض؟ ولم يجد مارينيان لهذه الأسئلة التي ثارت في نفسه جواباً.
ولكن إذ ذاك في طرف المرعى ظهر ظلان يمشيان جنباً إلى جنب تحت الأشجار المتعانقة الغارقة في الضباب الفضي.
وفجأة انتعشت الحياة في الأماكن المهجورة التي أحاطت بهما وبدا الشخصان وكأنهما كائن واحد. وقد اقتربا من مارينيان كإجابة حية على سؤاله.
وقف مارينيان مصعوقاً وقلبه ينبض بشدة. وقال لنفسه ربما خلق الله مثل الليلة مثلاً لحب الإنسان.
وتراجع بعيداً عنهما. وكانت فعلاً ابنة أخته. وكان مارينيان يتساءل الآن ... ألم يكن على وشك الخروج عن طاعة الله عز وجل؟
وهرب مارينيان مبهوتاً وهو يكاد يشعر بالخجل، كما لو كان اجتاز هيكلاً لا حق له في اجتيازه.
لو أنك حاولت أن تلخص الخبر الذي ترويه هذه القصة لقلت إن قسيساً يدعى مارينيان سمع أن ابنة أخته على علاقة بأحد الشبان فخرج ليضبطهما وتربص لهما في الحقول. وبعد مدى رآهما قادمين في ضوء القمر فخجل من نفسه وعاد إلى بيته.
خبر في ذاته تافه لا معنى له ولا يشبه القصة أو يعادلها في كثير أو قليل ومع ذلك فهو نفس الخبر الذي تحويه القصة، نفس الخبر الذي يعني الشيء الكثير عندما تقرأ القصة بأكملها. والسبب واضح فالخبر في القصة لم يعزل ويجرد كما عزل وجرد في الملخص. فنحن نعلم من هو "مارينيان" وما هي مشاعره بالنسبة للخالق وما هي احساساته بالنسبة للنساء. ونحن نعلم أنه دائم السؤال عن مظاهر الخليقة وأنه دائماً يجد سبباً لكل ظاهرة من هذه المظاهر. ونحن نعلم كيف كانت مشاعره عندما رأى ضوء القمر يغمر الحقول، وأنه حاول جاهداً أن يجد سبباً لهذا الجمال الذي يغمر الكون في ضوء القمر، إذ كان يعتقد أن الله عز وجل لا يخلق شيئاً دون سبب، وأنه عندما رأى ابنه أخته مع زوجها قادمين اهتدى إلى السبب. وأحس كما لو كان على وشك أن يطأ هيكلا حرّم عليه دخوله فعاد إلى بيته ... نحن نعلم كل هذه الأشياء وهي أشياء لا يمكن أن تنفصل عن الخبر الذي تنقله القصة لأنها السبب فيه ولذلك فإن الخبر بدونها لا معنى له بل ولا جود له ...
والواقع أن هذه القصة لا تعني بنقل خبر على الإطلاق وإنما تعنى بتصوير حدث متكامل له وحدة، ولذلك فأنت لا يمكنك أن تلخصها أو أن ترويها.
والحدث الذي تصوره قصة "موباسان" ينقسم ككل حدث متكامل إلى مراحل ثلاث:
المرحلة الأولى: وهي البداية أو الموقف وتتكون من خطوط ثلاثة:
الخط الأول: ويصور مارينيان رجل ذو نفس متسامية يعتقد أن كل شيء خلقه الله لا بد وأن يكون له سبب، وهو يدرك هذه الأسباب ويفهمها جيداً.
الخط الثاني: ويصور كراهية مارينيان للنساء، لسحرهن الفتاك ولاغوائهن، ونحن لا نعلم أكثر من ذلك عن مارينيان. ولكننا نعلم ما يفي بالغرض.
أما الخط الثالث: فيصور إبنة أخت مارينيان التي أراد لها أن تكون راهبة ولكن قلبها مفعم بالرغبة في الحياة ولا نعلم أكثر من ذلك عنها ولكن ما نعلمه يفي بالغرض.
هذه الخطوط الثلاثة تمثل عوامل الحدث. وهي تسير متوازية ما دامت لم تتعد مرحلة البداية أو الموقف، ولكنها لا يمكن أن تظل متوازية إلى الأبد. فالقس مارينيان كتشف أن ابنة أخته على علاقة بأحد الشبان وأنها تخرج للقائه كل مساء، وهنا تبدأ المرحلة الثانية وهي مرحلة الوسط أو التشابك. فنلاحظ أن الخط الثاني، وهو الذي يصور كراهية مارينيان للنساء والحب، يبدأ يتشابك مع الخط الثالث، وهو الذي يصور رغبة مارينيان في أن تكون ابنة اخته راهبة، لذلك نجه يثور ويمسك بعصاه ويهشم بها الكرسي ثم يصمم على الخروج ليضع حداً لهذا الغرام.
ولكنه ما يكاد يفتح الباب ليخرج حتى يقف على العتبة وقد راعه بهاء القمر، ولما كان ذا نفس متسامية فقد أحس فجأة بالحنان يملأ قلبه والرقة تغمر نفسه، فوقف مبهوتاً يتأمل جمال الليل الهادئ الشاحب وعند هذه النقطة يبدأ الخط الأول وهو الذي يصور تدين مارينيان ونفسه المتسامية في التشابك مع الخطين الثاني والثالث. ويتجول مارينيان بين الحقول، ويزداد تأمله لجمال الليل في ضوء القمر ويزداد قلبه امتلاءً بالخشوع وتزداد نفسه امعاناً في الرقة. ويتساءل كعادته عندما لا يفهم أمراً من أمور الله. عن السر في وجود هذا الجمال، ما دام الليل قد جعل للنوم. ويحتار وتشتد حيرته وعند ذاك يظهر على بعد ظلان يسيران جنباً إلى جنب، تحت الأشجار المتعانقة.
وفجأة خيّل إلى مارينيان أن الحياة قد انتعشت في الطبيعة المهجورة التي أحاطت بهما. واقتربا من مارينيان كاجابة حية على سؤاله. وتراجع بعيداً عنهما وكانت فعلاً ابنة اخته وراح مارينيان يتساءل "ألم يكن على وشك الخروج على طاعة الله"؟ وهرب مبهوتاً وهو يكاد يشعر بالخجل، كما لو كان قد اجتاز شيئاً لا يحق له اجتيازه وهذه هي المرحلة الثالثة أو نهاية الحدث .. وهي كما ترى ليست شيئاً مفروضاً على الحدث من الخارج بل هي النتيجة المحتومة لجميع عوامل الحدث كما عرفناها في مرحلة البداية. مارينيان ونفسه المتسامية واعتقاده الراسخ أن كل شيء خلقه الله لا بد وأن يكون له سبباً. وأيضاً كرهه للنساء، ثم ابنة اخته اليافعة ذات القلب المليء بالرغبة في الحياة، كل هذه العوامل قد تشابكت وتفاعلت بعضها مع البعض إلى أن انتهت إلى نقطة واحدة، تكامل بها الحدث وتحققت وحدته.
وكل هذه العوامل، كما هو واضح تتضمن الفعل والفاعل أو الشخصية وهي تعمل. ولذلك كانت قصة موباسان قصة بالمعنى الحقيقي، لأنها تصور حدثاً متكاملاً له وحدة. فلأجل أن تتحقق للحدث وحدته يجب ألا يقتصر على تصوير الفعل دون الفاعل لأن الفعل والفاعل أو الحدث والشخصية شيء واحد لا يمكن تجزئته فإن اقتصر تصويرنا على الفعل وحده لما استطعنا أن نصور الحدث كاملاً، بل لما استطعنا أن نصور الحدث على الإطلاق، إذ يجيء ما نكتب خبراً، وإن كنا نريد له أن يكون قصة ... .
أعيد وأكرر بأن الهدف من هذه القصة هو بيان تصوير الحدث المتكامل وحاولت قدر المستطاع حذف ما يمكنني حذفه وتغيير بعض المسميّات بقدر لا يؤثر على سير تصوير الحدث.
وفي الحلقة الثالثة سوف نتكلم عن أحد عناصر بناء القصة وهو (المعنى).
أخوكم
حسن خليل
التوقيع
|
تتقدم إدارة المنتدى بالشكر الجزيل
للمراقب والأديب/ حسن خليل ، على
جهوده الكبيرة في الرقي بالأقسام الأدبية
من خلال النقد ووضع المسابقات والحوافز
لجعل أقسامة متميزة كما هو ، سيما في
نجاح مسابقة " المقالة الأدبية " .
8/1/2012م
الأدارة .
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ
|
|