خطابات من قبري
سألوني كيف تريدين مقاسه, أهم شيء أنهم سألوني عن مقاسه, لا إلى أين أخذوني, ولا يمكن أن يكون ذلك, مجرد وهم هو أكبر من ذلك, وترجتني أن أعود إليها, وأن أدعها تنام بكل هدوء, ولا أطلبها إلا عندما أحتاجها بأمر هام وضروري, أغلقي التابوت وامضي في حياتك, كانت هذه الكلمات الأخيرة التي قالتها لي وكأنها خطابات قد خرجت من قبري, وهي تنام فيه تودعني, وكأنها ستنام فيه للأبد, وكأنها ستعيد حياتنا من بدايتها وكأن الحياة تدور وتدور, وتعود بنا من حيث انتهينا أو بدأنا, كان يجب أن أرفض طلب أختي مني عندما قالت أننا يجب أن نترك بيت أمي, ونبتعد عنها, أعرف أنها كانت لا تحبني, وتحبها أكثر مني, لكن تبقى أمنا مهما حدث, كانت تتشاجر معها كثيراً لدرجة أحياناً أشعر أنهما ستقتلان بعضهما, قالت لي فكري جيداً وبعد ذلك وافقت وذهبت معها, وفي الطريق سمعنا في راديو السيارة أن هناك وباء خطير يجتاح المنطقة, لم تكترث أختي مريان له, وتابعت طريقها نحو الوباء مباشرة, وتفاجئتْ بوجود عدد كبير من الناس على الطريق, حاولتْ الابتعاد عنهم فانقلبت السيارة, وتبعثر جسدينا, كل جسد في اتجاه, وفقدتُ أثرها ولم أعد أجدها حاولتُ السير بين الناس المندفعين هرباً من شيء لم أعرفه بعد, فهربت معهم, ولم أستطع أن أسأل أحد منهم, وهم بهذه الحالة من الرعب والفزع الشديد, وشعرت من شدة خوفهم أن الأمر ليس مجرد أمر عادي, أو مجرد وهم, لذلك هربت قبلهم, بكل قوتي ولم أترك مكاناً إلا وأهرب منه إلى أن دخلت مدرسة أطفال, قررت أني يجب أن أساعدهم, لكن خوفهم المبعثر من دون هدف جعلني أضيع عنهم, حتى وجدت نفسي وحدي من جديد, صرخت من خوفي ليس مما يحدث بل من شعوري بالوحدة, ثم أخبرتني امرأة أن كل الذين كانوا في القرية, قد تحولوا لأشخاص غريبي الأطوار يريدون دمائنا كطعام لهم, والقسم الآخر تحولوا لوحوش تريد هؤلاء الأشخاص كطعام لهم, وشعرت إني في دوامة من الألغاز والألعاب الترفيهية التي تختلط بين الواقع والخيال, ولم أجد وصف لها مهما حاولت, فركضت معهم ولو كانت خطواتي تسبقهم, وانتهت بي وحدي دونهم, حتى عرفت أنهم جميعهم قد ماتوا, وفي مكان ما التقيت بمجموعة أشخاص يبدو أنهم قد نجوا من الموت, وأنقذوا حياتي وذهبت معهم, نهرب من مكان إلى مكان, من هؤلاء الأشخاص وأيضاً من هؤلاء الوحوش, وفي كل مرة نهرب يموت فيها أحد منهم حتى عدت وحدي من جديد, لكن قبل أن تموت آخر امرأة من المجموعة, قالت لي أن أنام على الأرض وأمثل دور الميت, وأبدو وكأني ميتة عندما يحاول أحد هؤلاء الأشخاص أكل دمي, أما عندما يهجم علي أحد الوحوش فكان علي وقتها أن أستسلم للموت وألا امثل دور الموت أبداً, بل علي البدء بالتفكير في شكل قبري وتفاصيله, وكيف سأسكن بين زواياه وحدي, وعلمتني كيف أميز بينهم, وبينما كنت في الغرفة وحدي أشاهد كيف يحاول هؤلاء الأشخاص الهروب من الوحوش, جاء رجل منهم نحوي, ففعلت كما قالت لي المرأة, أخذت غطاء كان إلى قربي, وضعته فوق جسدي ونمت على الأرض, وادعيت الموت فتركني وابتعد عني, لكني لم استطع البقاء طويلاً هكذا, فوقفت دون أن أشعر, بينما كان على وشك الذهاب وأنجو منه, لكنه عاد إلي ورفع عني الغطاء, ونظر إلي وكأنه يعرفني فرفع يده عني وترك الغطاء ورحل, ثم جاءت امرأة نحوي بسرعة والمفاجأة جعلتها تقف تنظر إلي بلهفة, ثم اقتربت نحوي وأعطتني كنزه, قالت لي أن ألبسها, وسلاح قالت لي أن أقتل به هؤلاء الوحوش, فأخذته بقبول وقتلت به أول وحش كاد أن يهجم عليها, ولا أعرف كيف عبرت لي عن شكرها, بأن أظهرت لي أسنانها المخيفة, لكنها لم تخيفني أبداً بل جعلتني أبتسم لها, لبست الكنزة ولحقت بها بسرعة وسلكت نفس الطريق الذي مرت فيه, لكن لم أستطيع اللحاق بها, بل التقيت بأشخاص مثلها ولم يؤذوني أبداً, ربما بسبب هذه الكنزة التي تقول لهم أني واحدة منهم, وهربت معهم من هؤلاء الوحوش, حتى ماتوا كلهم, حتى الرجل الذي كان مع المرأة قد مات, المرأة التي أعطتني السلاح, كنت أعرفها وتعرفني, بقيت أنا وهي فقط, وكانت مصابة وتنزف, وكانت بحاجة للطعام, وكما نعرف كان طعامها الوحيد هو الدم أي دمي, لم أستطع أن أراها تموت فطلبتُ منها أن تأخذه, لكنها رفضت ذلك, وفجأة ظهر وحش يبدو أنه كان الأخير والوحيد الذي نجا, حاولتُ أن أقتله بالسلاح لكنه كان فارغ, فقالت مريان لا بأس يبدو إنه وقت النهاية, يجب أن نفترق الآن, اعتني بنفسك وعيشي حياتك, ثم ركضتْ بسرعة وهجمت على الوحش وانفجرا معاً, حزنت كثيراً عليها وبكيت, ونزعت الكنزة وقرأتُ ما كتب عليها, وكانت أحلى لحظة شعرت بها, لبستها من جديد ومضيت في طريقي بين الآلاف من الجثث, وأنا أحاول الاقتراب منها لربما كان أحد منهم ما زال على قيد الحياة, فقد بدأت آلام الوحدة تخترق عقلي ومنه إلى قلبي كي أصبح رهينة الخوف والكآبة والموت, وقربي وعلى بعد خطوات قليلة, ظهر رجال مسلحون بمدرعات, ثم فجأة رأيتُ قذيفة مدفع تتجه نحوي, وأنا واقفة مذهولة تماماً لا أعرف ماذا أفعل, فلم يعد هناك وقت لأقول لهم أني لست منهم, لكنها جاءت في الوقت المناسب جاءت مريان, التي لم تمت لأن رائحة دماء الوحش الذي مات جعلتها تعيش, وجاءت لتنقذني, وبجناحيها غطتني, فلم تصبني القذيفة أبداً, ولا حتى نيرانها, ثم حركت جناحيها نحوهم فطاروا جميعاً, وبعد ذلك حملتني وطارت بي بعيداً, لكنها تفاجئت بوجود طائرة, اصطدمت بها فوقعت منها, وبعد أن تخلصتْ منها, طارتْ بسرعة نحوي وأمسكتْ بي, قبل لحظات من ارتطامي بالأرض, وتوقف قلبي عن العمل مؤقتاً, ثم طارت بي بعيداً من جديد, حتى وصلنا بيتنا الذي كنا سنسكن فيه في المدينة, دخلتْ من النافذة بعدما كسرتْهَا بجسدها فوقعنا الأرض وفقدنا وعينا, وبعد لحظات صحوت وتوجهت نحوها, وجدت أن كتفها مجروح وينزف, وضعتها على السرير وعالجتُ جرحها, وكانت مجموعة أخرى من الرجال تدق الباب, بعدما عرفَتْ مكاننا جاءت البيت وحاصرته, نظرت إلي وقالت لا بد وأنها النهاية هذه المرة, وأنه وقت الرحيل بالفعل, وهناك حل واحد ولا غيره, وتابوتي قد أصبح جاهزاً وينتظرني بفارغ الصبر, ضعيني فيه بأمان ولا تخافي علي سأكون بخير, سأنام بهدوء وأحلم بك ولن أنساك أبداً, وضعتُها وأنا أحاول ألا أبكي, ودعتُها وهي تقول لي عودي إليها ولا تبقي وحدك هنا, وإذا سألَتْك عني قولي لها أني مت فقط ولا تشرحي لها أية تفاصيل, ثم نزعتُ الكنزة ووأعطيتها لها, أمسكتْ بها بقوة وقبلتها, وقالتْ لي دعيني الآن أنام بهدوء, ولا تزعجيني مهما حدث, قلت لها سأفعل, ثم أغلقتُ غطاء التابوت الذي اختفى داخل الجدار, وذهبتُ نحو الباب قلت لهم أن ينتظروا حتى أفتح لهم, وعندما دخلوا سألتهم ماذا يريدون مني, لم يستمعوا لي وفتشوا البيت كله, وعندما لم يجدوا شيء ذهبوا وهم غير مقتنعين بما لم يجدوه, وبعدما ذهبوا اغتسلت وارتديت ثياب جديدة, وجهزت أغراضي وذهبت إلى بيت أمي, وعندما دخلت قالت من هناك, قلت هذه أنا, قالت كأنك وحدك أين أختك, قلت لقد ماتت, وكأنك غير سعيدة برؤيتي, سأذهب ولن أضايقك من جديد, فقالت لي إلى أين تظنين نفسك ذاهبة, فأغلقتْ الباب بقوة غضبها, واقتربت مني وحاولتْ أن تقتلني, فجلستُ على الأرض أصرخ مريان .. مريان, فجاءتْ إلي بسرعة عندما طلبَتْ منها جدتي أن ترى ما بي, حاولتْ أن توقظني ورمت علي القليل من الماء, حتى استيقظت خائفة جداً وعانقتها, وصرختُ أمي لا تتركيني, قالتْ ولمَ أتركك, انظري إلي, من قال لك ذلك من أخبركِ الحقيقة, هل كنتِ هناك معها, هل قالت لك مريان أنها أمك أم شعرت بذلك مجرد شعور أم مجرد حلم مزعج, يا إلهي اسمعي لن تشاهدي أفلام بعد اليوم اتفقنا, ثم سألتها متى ستتوقف عن الشجار مع جدتي, قالت لن نتوقف, لذلك فكرتُ أن نرحل من هنا, قلتُ لا أريد الرحيل, قالتْ عودي للنوم الآن, وفكري بالأمر بروية بينما أنهي الأمر مع جدتك, وبعدما رحلت أمي شعرت بشيء ما بين يدي, وعندما رفعت الغطاء وجدت الكنزة, يا إلهي إنها الكنزة ذاتها, فصرخت وصرخت من شدة خوفي, وبعد ذلك لم نرحل, لم نرحل أبداً ....
بقلمي غالية طرابيشي
التوقيع
|
الولادة الحقيقية للانسان هي اول سجدة يسجدها للرحمن
|
|