العاب اون لاين: العاب بلياردو | العاب سيارات | العاب دراجات | العاب طبخ | العاب تلبيس |العاب بنات |العاب توم وجيري | العاب قص الشعر |
للشكاوي والاستفسار واستعادة الرقم السري لعضوية قديمة مراسلة الإدارة مراسلتنا من هنا |
|
|
|
أدوات الموضوع | التقييم: | انواع عرض الموضوع |
#11
|
|||
|
|||
مروان بن محمد.. والإنقاذ المستعصي
حدود الدولة الأموية في أقصى اتساع لها مرَّت الدولة الأموية في الفترات الأخيرة من حياتها بفتن، وقلاقل، وثورات، واضطرابات، ولم تكن هذه المرة من أعدائها والخارجين عليها، وإنما أشعلها أهل البيت نفسه دون مراعاة لوحدة الأسرة الحاكمة أو المحافظة على سلامة الدولة، وانشغل كل ثائر بنفسه لا يرى سواها ولا يرى الحق إلا فيها، وكانت هذه الفتن هي أخطر ما واجهته الدولة الأموية، فاجأتها وهي منهكة القوى من طعنات الثائرين عليها، مفككة البنيان بعد أن فعلت العصبية القبلية أفاعيلها في جسد الدولة، فإذا أضيف إلى ذلك أن خلفاء الدولة المتأخرين لم يكونوا على قدر المسؤولية، وتعجز ملكاتهم عن قيادة إمارة صغيرة فكيف يفعلون بدولة عملاقة كالدولة الأموية؟ تجمع ذلك كله وسار في اتجاه سقوط الدولة وحاول مروان بن محمد أن يعيق تصاريف القدر أو يؤجل وقوع المصيبة، فما استطاع على قدرته وكفاءته، فكانت الأقدار أكبر منه والأحداث سريعة متلاحقة أعجزته عن تدبير أمره، فوقع ما ليس منه بد، وانهار البناء الشامخ، وكان يُظن أنه راسخ كالجبال. أحوال الدولة الأموية تتابع خلال ثلاثة أعوام ثلاثة من خلفاء الدولة الأموية، فتولى الوليد بن يزيد بن عبد الملك الخلافة سنة (125هـ = 742م)، ولم يمكث طويلا في الخلافة، وثار عليه أبناء عمومته من أبناء الوليد بن عبد الملك وأخيه هشام، وانتهى الأمر بقتله سنة (126هـ = 743م)، وتولى يزيد بن الوليد بن عبد الملك الخلافة، لكنه عجز عن ضبط أمور الدولة التي اضطربت، وانشغل أبناء البيت الأموي بالصراعات وتدبير المؤامرات، وزاد الأمر سوءاً اشتعال العصبيات القبلية، وانتقل الخلل من عاصمة الدولة إلى الأقاليم، وفي وسط هذه الأحداث الهائجة والأحوال الثائرة توفي يزيد بن الوليد، ولم يتجاوز حكمه ستة أشهر تاركًا دولته تموج بها الفتن، وتشيع فيها الفوضى، وبعد وفاته تولى أخوه إبراهيم بن الوليد الخلافة، ولكن الأمر لم يتم له، ولم يستطع أن يمسك بزمام الأمور، حيث نازعه مروان بن محمد الحكم، ونجح في إزاحته عن منصبه، وتولى الأمر بدلاً منه. ولاية مروان بن محمد كان مروان بن محمد قبل أن يتولى الخلافة الأموية حاكمًا على ولاية أرمينية وأذربيجان تولاها سنة (114هـ = 732م) من قبل هشام بن عبد الملك، فأظهر كفاءة وقدرة في إدارة شؤون ولايته وبذل جهدًا كبيرًا في ضبط أمورها، ورد غارات الترك والخزر على حدود ولايته، وظلَّ مروان على ولايته حتى نجح في الجلوس على كرسي الخلافة الأموية بعد أن لعبت به الأهواء. ولم تكن الظروف التي تولى فيها مروان بن محمد تساعده على الخروج بدولة الخلافة من أزمتها، بل كانت مضطربة تغلي كالمرجل فتحمل هو عبء أوزارها، وحاول بكل ما يملك من قوة إصلاح اعوجاجها، ولكنه كلما خلص من أزمة ظهرت له أخرى، كأنها تنتظره فأنهكت قواه، واستغرقت جهده ووقته، ولم تدع له فرصة للتفسير الهادئ والتأمل الرزين. وكانت دمشق معقل الأمويين ومركز أنصارهم منقسمة على نفسها شيعًا وأحزابًا، وامتد هذا إلى الشام كله، وأصبح الأمر كله منذرًا بالخطر، فحاول مروان أن يهدئ النفوس، ويسكن القلوب الثائرة بأن عرض على أهل الشام أن يختاروا من يرضونه واليًا عليهم دون نظر إلى عصبيته وقبيلته، ففعلوا ذلك، وبهذه الخطوة الطيبة نجح مروان في أن يرتِّب أوضاع الشام وأن يعيد الهدوء والنظام إليها. اشتعال الثورات ضد الخليفة ولم يكد يطمئن الخليفة مروان بن محمد في حران التي اتخذها مقرًّا لحكمه حتى تبدَّد الحلم، وانهار صرح السلام بعد أن جاءته الأخبار بثورة أهل حمص عليه بزعامة ثابت بن نعيم الجزامي، وكان مروان قد أبدى معه تسامحًا ولينًا، على الرغم من غدره به من قبل وإثارته الناس عليه، فعيَّنه واليًا على فلسطين بناء على رغبة أهلها، ولكن "ثابت" لم يحفظ عهدًا أو يراعِ ودًّا، وغلبت عليه نفسه الأمارة بالسوء فكاتب الناس، ودعاهم إلى الثورة، وحضهم على الخروج على الخليفة، ولم يصبر مروان على هذا الأمر فخرج على رأس جيشه، ونجح في قمع الفتنة واقتلاع جذورها. وفي الوقت الذي كان مروان بن محمد مشغولاً بقمع ثورة حمص شبَّت ثورة هائجة في غوطة دمشق، وولَّى أهلها عليهم زعيمًا يمنيًّا هو يزيد بن خالد القسري، وساروا إلى دمشق، فحاصروه غير أن مروان أرسل إليهم وهو في حمص جيشًا تمكن من القضاء على الفتنة وقتل متزعمها. محاولة الصلح بين أبناء البيت الأموي حاول مروان بن محمد أن يقيم صلحًا بين أبناء البيت الأموي، وأن يحل الوئام بينهم، وأن يكونوا عونًا للدولة لا حربًا عليها، فزوج ابنيه عبيد الله وعبد الله من ابنتي هشام بن عبد الملك آملا من أن تكون هذه المصاهرة سببًا في رأب الصدع، ولمّ الشمل، والتفرغ لقتال الخوارج الذين ثاروا بالعراق تحت قيادة الضحاك بن قيس الشيباني، منتهزين فرصة انشغال الدولة بثورات أهل الشام، وفي الوقت الذي كان فيه مروان يشرف على تجهيز جيش لقتال الخوارج فاجأته ثورة عارمة قادها صهره سليمان بن هشام بن عبد الملك في الرصافة، وانضم إليه 10 آلاف من أهل الشام الذين استنفرهم مروان بن محمد لقتال الخوارج. وشجَّع هؤلاء المنضمون سليمان على الخروج على الخليفة الشرعي، وخلع بيعته، فاستجاب لهم لهوى في نفسه دون أن يعبأ ببيعته التي في عنقه، ودون مراعاة لمصالح الدولة، وأمنها الذي تهدده ثورات الخوارج، واستفحلت ثورة سليمان واجتمع حوله سبعون ألفًا من الجند. ولم يكن أمام هذه الأنباء المفجعة إلا أن يخرج الخليفة بنفسه للقضاء على هذا الخطر المتصاعد الذي يكاد يعصف بالدولة، والتقى بخصمه عند قرية تسمَّى خسَّاف من أعمال قنسرين، ودارت بينهما معركة حامية سنة (127هـ = 744م) هُزم فيها سليمان، وقتل نحو ثلاثين ألفًا من أتباعه، وهرب بمن بقي معه إلى حمص، فتابعه مروان وحاصر حمص حتى استسلمت. ثورات الخوارج ولم تكد الأحوال تستقر قليلاً ويعود إليها شيء من السكينة والهدوء ويفرغ الخليفة مروان لإدارة دولته التي تأثرت كثيرًا بانقسام البيت الأموي، واحتدام الصراع بين أبنائه، حتى فاجأه اندلاع ثورات في أماكن مختلفة من أنحاء دولته، فشبت ثورة عارمة قادها عبد الله بن معاوية من أحفاد جعفر بن أبي طالب في العراق فيما بين سنتي (127-129هـ = 744-746م)، كما اشتعلت في الوقت نفسه فتنة هائجة للخوارج بقيادة الضحاك بن قيس الشيباني في العراق وقويت هذه الفتنة بانضمام بعض أبناء البيت الأموي، وهدّدت سلطة الخلافة بكثرة أتباعها، ولولا يقظة مروان بن محمد لعصفت بالدولة فتعامل معها بكل حزم وقوة حتى نجح في القضاء عليها سنة (129هـ – 746م). وقبل أن ينتهي مروان من القضاء على ثورة الضحاك بن قيس وخلفائه من الخوارج في العراق والجزيرة حتى شبت ثورة الخوارج في جنوبي الجزيرة العربية بقيادة أبي حمزة الخارجي سنة (128هـ = 745م) وبدأت من حضرموت وزحفت إلى مكة والمدينة، واستولت عليها، واتجهت إلى الشام مهددة أمن الخلافة الأموية، فاضطر مروان على الرغم من الأخطار المحدقة به أن يرسل جيشًا للقاء الخوارج، فتقابل الفريقان في "وادي القرى"، وانتهت المعركة بهزيمة الخوارج وقتل قائدهم. ظهور العباسيين وفي الوقت الذي كان فيه مروان يقضي على الفتن والثورات ويعيد إلى الدولة هيبتها كان العباسيون يضعون الخطط الأخيرة للقيام بحركتهم للانقضاض على الدولة، منتهزين انشغال الدولة بالثورات التي انبعثت في معظم أنحائها وكلفتها ثمنًا غاليًا من الأموال والأرواح للقضاء عليها. وكان العباسيون قد انتقلوا بعد مرحلة الدعوة السرية، وجذب الأعوان والأنصار إلى مرحلة العمل المسلح للقضاء على الأمويين، ولم تكن هناك فرصة مواتية أسنح مما كانت عليه الدولة الأموية في هذه الفترة، ولم يكن هناك مكان أصلح لبدء حركتهم من خراسان ملتقى أنصارهم وأعوانهم، وكانت هناك فتنة بين العرب اليمنية والمضرية ساعدت على إنجاح مهمة العباسيين، وفوق ذلك قاد ثورة العباسيين أبو مسلم الخراساني وهو رجل من أكفأ القادة وأمهرهم في ميادين القتال والحروب. وفي غمرة انشغال مروان بن محمد بأحوال الدولة المضطربة فاجأته ثورة العباسيين في خراسان سنة (129هـ = 746م) وانتقلت كالسيل المنهمر براياتها نحو العراق مكتسحة كل قوة للأمويين أمامها ولم تنجح محاولة واحدة في إيقافها حتى دخلت الكوفة، وأعلنت قيام الدولة العباسية سنة (132هـ = 750م) ومبايعة أبي العباس السفاح بالخلافة. النهاية الحزينة وسقوط الدولة وفي أثناء ذلك كان مروان بن محمد يستعد للِّقاء الحاسم لاستعادة دولته ورد العباسيين، فتحرك بقواته من حران إلى الموصل، والتقى بالعباسيين عند نهر الزاب الكبير -أحد روافد دجلة-، ودارت بينهما معركة هائلة لم يستطع جيش الأمويين على ضخامته أن يحسمها لصالحه، فحلت بهم الهزيمة في (جمادى الآخرة 132هـ = يناير/ فبراير 750م)، وفرَّ مروان بن محمد من أرض المعركة، وظل ينتقل من بلد إلى آخر يستعين بالناس فلا يجد معينًا فقد أدبرت عنه الدنيا، وانصرف عنه الأنصار، وانتهت به الحال إلى مصر، فدخلها طلبًا للنجاة والعباسيون من ورائه يتعقبونه، حتى لحقوا به وقتلوه في قرية تسمَّى "زاوية المصلوب" التابعة لبوصير الواقعة جنوبي الجيزة في ( 13 من ذي الحجة 132هـ = 23 من يوليو 750م)، وبوفاته انتهت الدولة الأموية في المشرق، وقامت الدولة العباسية.
|
#12
|
|||
|
|||
أبو جعفر المنصور.. الحاكم الجاد
مجسمة متخيلة لأبي جعفر المنصور بالعراق يعد أبو جعفر المنصور المؤسس الحقيقي للدولة العباسية التي ظلت خمسة قرون زينة الدنيا، ومركز الحضارة، وموئل الثقافة، وعاصمة العالم. نهض إلى الخلافة بعد أن أصقلته التجارب وأنضجته المحن، وخَبِر الناس وعاشرهم ووقف على دواخلهم وخلائقهم، وما إن أمسك بزمام الأمور حتى نجح في التغلب على مواجهة صعاب وعقبات توهن عزائم الرجال وتضعف ثبات الأبطال، وتبعث اليأس والقنوط في النفوس. وكانت مصلحة الدولة شغله الشاغل، فأحكمت خطوه وأحسنت تدبيره، وفجرت في نفسه طاقات هائلة من التحدي، فأقام دولته باليقظة الدائمة والمثابرة الدائبة والسياسة الحكيمة. مولده ونشأته في قرية "الحميمة" التي تقع جنوب الشام ولد عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس سنة (95هـ = 714م)، ونشأ بين كبار رجال بني هاشم الذين كانوا يسكنون الحميمة، فشب فصيحا عالما بالسير والأخبار، ملما بالشعر والنثر. وكان أبوه محمد بن علي هو الذي نظّم الدعوة العباسية، وخرج بها إلى حيز الوجود، واستعان في تحركه بالسرية والكتمان، والدقة في اختيار الرجال والأنصار والأماكن التي يتحرك فيها الدعاة، حيث اختار الحميمة والكوفة وخراسان. وحين نجحت الدعوة العباسية وأطاحت بالدولة الأموية؛ تولى أبو العباس السفّاح الخلافة سنة (132هـ = 749) واستعان بأخيه جعفر في محاربة أعدائه والقضاء على خصومه وتصريف شئون الدولة، وكان عند حسن ظنه قدرة وكفاءة فيما تولى، حتى إذا مرض أوصى له بالخلافة من بعده، فوليها في (ذي الحجة 136هـ = يونيو 754م) وهو في الحادية والأربعين من عمره. الفترة الأولى من خلافته لم تكن الدولة العباسية حين تولى أمرها الخليفة أبو جعفر المنصور ثابتة الأركان مستقرة الأوضاع، بل كانت حديثة عهد، يتربص بها أعداؤها، ويتطلع رجالها إلى المناصب الكبرى، وينتظرون نصيبهم من الغنائم والمكاسب، ويتنازع القائمون عليها من البيت العباسي على منصب الخلافة. وكان على الخليفة الجديد أن يتصدى لهذه المشكلات التي تكاد تفتك بوحدة الدولة، وتلقي بها في مهب الريح. وكان أول ما واجهه أبو جعفر المنصور ثورة عارمة حمل لواءها عمه عبد الله بن علي الذي رأى أنه أحق بالخلافة من ابن أخيه؛ فرفض مبايعته، وأعلن التمرد والعصيان، وزعم أن "أبو العباس السفاح" أوصى بالأمر له من بعده، واستظهر بالجيش الذي كان يقوده في بلاد الشام. لجأ الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور إلى المدينة واتباع الطرق السلمية في علاج الموقف، فبعث إلى عمه رسائل عدة تدعوه إلى الطاعة وترك العصيان، لكنه أعرض عن دعوته وركب رأسه وأعماه الغرور، فلم يجد المنصور بدًا من الاستعانة بالسيف، وأرسل له قائده "أبو مسلم الخراساني" على رأس جيش كبير، فتمكن بعد عدة معارك من هزيمة عم الخليفة المتمرد هزيمة ساحقة في (جمادى الآخرة 137هـ = نوفمبر 754م)، فاضطر إلى الفرار والاختباء عند أخيه سليمان بن علي والي البصرة، ولما علم الخليفة أبو جعفر المنصور بخبره احتال له حتى قبض عليه، وألقى به في السجن حتى توفي. وما كاد يلتقط الخليفة العباسي أنفاسه حتى أعد العدة للتخلص من أبي مسلم الخراساني، صاحب اليد الطولى في نجاح قيام الدولة العباسية، وكان الخليفة يخشاه ويخشى ما تحت يده من عدد وعتاد في خراسان، ولم يكن الرجلان على وفاق منذ قيام الدولة. وكان أبو مسلم الخراساني يتيه بما صنعه للدولة. وتحين أبو جعفر المنصور الفرصة للتخلص من غريمه، ولجأ إلى الحيلة والدهاء حتى نجح في حمل أبي مسلم على القدوم إليه بعيدًا عن أنصاره وأعوانه في (شعبان 137هـ = فبراير 755م)، وبعد جلسة حساب عاصفة لقي القائد الكبير مصرعه بين يدي الخليفة. وبعد مقتل أبي مسلم الخراساني اشتعلت ضد الخليفة العباسي عدة ثورات فارسية للثأر لمقتله، غير أن الخليفة اليقظ نجح في قمع هذه الفتن والقضاء عليها. ثورة محمد النفس الزكية غير أن أخطر ما واجه المنصور هو ثورة العلويين بقيادة محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب المعروف بالنفس الزكية، وأخيه إبراهيم، وكانا يعدان العدة للخروج على أبي جعفر المنصور، وينتظران الفرصة للانقضاض عليه، واختفيا عن أنظار الخليفة يبثان رجالهما وينشران الدعوة إليهما. وكان محمد النفس الزكية يرى نفسه أحق بالخلافة من أبي جعفر المنصور، فامتنع عن بيعته، كما امتنع من قبل عن بيعة أبي العباس السفاح، فلما ولي أبو جعفر المنصور رأى في بقاء محمد وأخيه خطرًا يهدد دولته، وأيقن أنهما لن يكفا عن الدعوة إلى أحقية البيت العلوي بالخلافة، وأقلق اختفاؤهما الخليفة اليقظ؛ فبذل ما في وسعه لمعرفة مكانهما فلم ينجح في الوصول إليهما، وعجز ولاة المدينة عن تتبع أخبارهما، فاستعان بوالٍ جديد للمدينة غليظ القلب للوصول إلى مكان محمد النفس الزكية، فلجأ إلى القبض على عبد الله بن الحسن والد الزعيمين المختفيين وهدده وتوعده، وقبض أيضا على نفر من آل البيت، وبعث بهم مكبلين بالأغلال إلى الكوفة فشدد عليهم الخليفة وغالى في التنكيل بهم، فاضطر محمد النفس الزكية إلى الظهور بعد أن مكث دهرا يدعو لنفسه سرا، واعترف الناس بإمامته في مكة والمدينة، وتلقّب بأمير المؤمنين، وكان الناس يميلون إليه لخلقه وزهده وحلمه وبعده عن الظلم وسفك الدماء حتى أطلقوا عليه النفس الزكية. وحين نجحت حيلة المنصور في إجبار محمد النفس الزكية على الظهور بعد القبض على آل بيته، بعث إليه بجيش كبير يقوده عمه عيسى بن موسى فتمكن من هزيمة محمد النفس الزكية وقتله بالمدينة المنورة في (14 من رمضان 145هـ = 6 من ديسمبر 762م). ثم تمكن من هزيمة الجيش العلوي الثاني الذي كان يقوده إبراهيم أخو محمد النفس الزكية، الذي تغلب على البصرة والأهواز وفارس، ونجح في القضاء عليه بعد صعوبة بالغة في (25 من ذي القعدة 145هـ = 14 من يناير 763م) في معركة حاسمة وقعت في "باخمرى" بين الكوفة وواسط، وبذلك زال خطر هائل كان يهدد سلامة الدولة الناشئة. وقد أثبتت هذه الأحداث المتلاحقة والثورات العارمة، ما يمتلكه الخليفة أبو جعفر المنصور من براعة سياسية وخبرة حربية، وقدرة على حشد الرجال، وثبات في المحن، ودهاء وحيلة في الإيقاع بالخصوم، وبذلك تمكن من التغلب على المشكلات التي واجهته منذ أن تولى الحكم. المنصور وبناء بغداد رغب الخليفة أبو جعفر المنصور في بناء عاصمة جديدة لدولته بعيدة عن المدن التي يكثر فيها الخروج على الخلافة كالكوفة والبصرة، وتتمتع باعتدال المناخ وحسن الموقع، فاختار "بغداد" على شاطئ دجلة، ووضع بيده أول حجر في بنائها سنة (145هـ = 762م) واستخدم عددا من كبار المهندسين للإشراف على بنائها، وجلب إليها أعدادا هائلة من البنائين والصناع، فعملوا بجد وهمة حتى فرغوا منها في عام (149هـ = 766م) وانتقل إليها الخليفة وحاشيته ومعه دواوين الدولة، وأصبحت منذ ذلك الحين عاصمة الدولة العباسية، وأطلق عليها مدينة السلام؛ تيمنا بدار السلام وهو اسم من أسماء الجنة، أو نسبة إلى نهر دجلة الذي يسمى نهر السلام. ولم يكتف المنصور بتأسيس المدينة على الضفة الغربية لدجلة، بل عمل على توسيعها سنة (151هـ = 768م) بإقامة مدينة أخرى على الجانب الشرقي سماها الرصافة، جعلها مقرا لابنه وولي عهده "المهدي" وشيد لها سورا وخندقا ومسجدا وقصرا، ثم لم تلبث أن عمرت الرصافة واتسعت وزاد إقبال الناس على سكناها. بيت الحكمة ومن الأعمال الجليلة التي تُذكر للمنصور عنايته بنشر العلوم المختلفة، ورعايته للعلماء من المسلمين وغيرهم، وقيامه بإنشاء "بيت الحكمة" في قصر الخلافة ببغداد، وإشرافه عليه بنفسه، ليكون مركزا للترجمة إلى اللغة العربية. وقد أرسل أبو جعفر إلى إمبراطور الروم يطلب منه بعض كتب اليونان فبعث إليه بكتب في الطب والهندسة والحساب والفلك، فقام نفر من المترجمين بنقلها إلى العربية. وقد بلغ نشاط بيت الحكمة ذروته في عهد الخليفة المأمون الذي أولاه عناية فائقة، ووهبه كثيرا من ماله ووقته، وكان يشرف على بيت الحكمة قيّم يدير شئونه، ويُختار من بين العلماء المتمكنين من اللغات. وضم بيت الحكمة إلى جانب المترجمين النسّاخين والخازنين الذين يتولون تخزين الكتب، والمجلدين وغيرهم من العاملين. وظل بيت الحكمة قائما حتى داهم المغول بغداد سنة (656هـ = 1258م). شخصية المنصور كان الخليفة أبو جعفر المنصور رجل عمل وجد، لم يتخذ من منصبه وسيلة للعيشة المرفهة والانغماس في اللهو والاستمتاع بمباهج السلطة والنفوذ، يستغرق وقته النظر في شئون الدولة، ويستأثر بمعظم وقته أعباء الحكم. وكان يعرف قيمة المال وحرمته، فكان حريصا على إنفاقه فيما ينفع الناس؛ ولذلك عني بالقليل منه كما عني بالكثير، ولم يتوان عن محاسبة عماله على المبلغ الزهيد، ولا يتردد في أن يرسل إليهم التوجيهات والتوصيات التي من شأنها أن تزيد في دخول الدولة، وكان يمقت أي لون من ألوان تضييع المال دون فائدة، حتى اتهمه المؤرخون بالبخل والحرص، ولم يكن كذلك فالمال العام له حرمته ويجب إنفاقه في مصارفه المستحقة؛ ولذلك لم يكن يغض الطرف عن عماله إذا شك في أماناتهم من الناحية المالية بوجه خاص لأنه كان يرى أن المحافظة على أموال الدولة الواجب الأول للحاكم. وشغل أبو جعفر وقته بمتابعة عماله على المدن والولايات، وكان يدقق في اختيارهم ويسند إليهم المهام، وينتدب للخراج والشرطة والقضاء من يراه أهلا للقيام بها، وكان ولاة البريد في الآفاق يكتبون إلى المنصور بما يحدث في الولايات من أحداث، حتى أسعار الغلال كانوا يطلعونه عليها وكذلك أحكام القضاء. وقد مكنه هذا الأسلوب من أن يكون على بينة مما يحدث في ولايات دولته، وأن يحاسب ولاته إذا بدر منهم أي تقصير. ولم يكن المنصور قوي الرغبة في توسيع رقعة دولته ومد حدوده؛ لأنه كان يؤثر توطيد أركان الدولة والمحافظة عليها وحمايتها من العدوان والقلاقل والثورات الداخلية، لكنه اضطر إلى الدخول في منازعات وحروب مع الدولة البيزنطية حين بدأت بالعدوان وأغارت على بلاده، وقد توالت حملاته على البيزنطيين بعد أن استقرت أحوال دولته سنة (149هـ = 766م) حتى طلب إمبراطور الروم الصلح فأجابه المنصور إليه، لأنه لم يكن يقصد بغزو الدولة البيزنطية الغزو والتوسع بقدر إشعارهم بقوته حتى يكفوا عن التعرض لدولته. وعلى الرغم من الشدة الظاهرة في معاملة المنصور، وميله إلى التخلص من خصومه بأي وسيلة، فقد كان يقبل على لقاء العلماء الزاهدين ويرحب بهم ويفتح صدره لتقبل نقدهم ولو كان شديدا. وتمتلئ كتب التاريخ والأدب بلقاءاته مع سفيان الثوري وعمرو بن عبيد وابن أبي ذئب والأوزاعي وغيرهم. ويؤخذ عليه شططه في معاملة الإمامين الكبيرين: أبي حنيفة النعمان، ومالك بن أنس؛ لاعتقاده أنهما يتفقان مع خصومه من آل البيت العلوي. دامت خلافة أبي جعفر المنصور اثنين وعشرين عاما، نجح خلالها في تثبيت الدولة العباسية ووضع أساسها الراسخ الذي تمكن من الصمود خمسة قرون حتى سقطت أمام هجمات المغول. وبعد حياة مليئة بجلائل الأعمال توفي الخليفة العباسي في (6 من ذي الحجة 158هـ = 7 من أكتوبر 755م) وهو محرم بالحج والعمرة، ودُفن في مقبرة المعلاة (بئر ميمون) في أعلى مكة المكرمة.
|
#13
|
|||
|
|||
صقر قريش مؤسس الدولة الأموية بالأندلس
أفلت دولة الأمويين في المشرق كما تأفل الشمس عند مغيبها مهيبة حزينة دامعة، وتخضب أفق زوالها بدماء الكثير من أمرائها ورجالها الذين أعمل فيهم العباسيون السيف قتلاً وذبحًا، واستباحوا أموالهم وممتلكاتهم كما استباحوا دماءهم. وسيطر العباسيون على زمام الأمور في المشرق، ومضوا يتعقبون الأمويين في كل مكان، حتى أفنوا عددًا كبيرًا منهم، وتفرق من بقي أو كُتبت له النجاة في أنحاء البلاد، وأعيت العباسيين الحيلة في طلبهم أو الوصول إليهم، لاستئصالهم وإبادتهم حتى لا تقوم لهم قائمة بعد ذلك. خدعة العباسيين تظاهر العباسيون بالندم لبث الثقة والأمن في نفوس الأمويين الفارين، وأعلن الخليفة "عبد الله السفاح" أنه يفتح صفحة جديدة للصفح عن الأمويين، وكتب كتابًا يتعهد فيه بالأمان للأمويين، ويدعو رجاله وأعوانه إلى عدم التعرض لهم بمكروه، واستأمن الخليفة بذلك الكتاب عددًا من أمراء البيت الأموي. وأخذ العباسيون يقربون الأمويين وينزلونهم في معسكر "صالح" بالقرب من نهر "أبي فطرس" وخدعوهم بالوعود الكاذبة، والمواثيق الخادعة. وصدّق الأمويون وعود العباسيين، وخدعتهم تلك الحيلة، وغرهم منهم ذلك اللين الزائف وتلك المودة المصطنعة، فأقبلوا عليهم يسلمون إليهم رقابهم، وهم لا يدرون أنهم إنما يساقون إلى الذبح، ولا يشعرون أن العباسيين قد أعدوا العدة لقتلهم وإبادتهم جميعًا. مقتل يحيى بن معاوية وكان "يحيى بن معاوية بن هشام" -شقيق "عبد الرحمن الداخل"- فيمن فرّ من بني أمية، وعندما بلغته دعوة العباسيين ساورته الظنون في صدق نواياهم، فلم يتعجل بالرجوع وتسليم نفسه إليهم، وسرعان ما صدقت ظنونه وكشف العباسيون عن حقيقة نواياهم فقتلوا جميع من لجأ إليهم من الأمويين، وعندئذ قرر "يحيى" الفرار والنجاة، ولكن العباسيين اكتشفوا مكانه، وأدركوه قبل أن يتمكن من الهرب وقتلوه. السعي إلى الفرار وعندما علم "عبد الرحمن الداخل" بمقتل أخيه فلم يجد أمامه غير الهرب، فعزم على الفرار إلى إفريقية لبعدها عن مقر الخلافة، وصعوبة وصول أنصار الخليفة إليها، خاصة بعدما بدأ سلطان العباسيين يتقلص عن تلك البلاد في ظل اشتعال الصراع بين قبائل العرب المضرية واليمنية حول أمور الحكم فيها، وشجعه على ذلك أن كثيرًا من أمراء بني أمية سبقوه في الفرار إليها. صورة دامية خرج "عبد الرحمن" مع أخ له صغير السن –لم يتجاوز الثالثة عشرة- وبعض أهله، واتجه إلى رجل من معارفه فطلب منه أن يشتري له عددًا من الدواب، ويهيئ له ما يتزود به في سفره، ولكن بعض عيون العباسيين دلوا عليه، فانطلقوا في إثره؛ فخرج حتى وصل إلى شاطئ الفرات، فأحاطت به خيول العباسيين، فألقى بنفسه في الماء ومعه أخوه، وانطلقا يسبحان نحو الشاطئ الآخر، وكان الشاطئ بعيدًا، فأخذ عبد الرحمن يسبح بقوة وحماس وكان يجيد السباحة، بينما بلغ أخاه التعب وهو في منتصف النهر، وخشي الغرق، ففترت عزيمته، وضارت قواه، وأراد العودة إلى الشاطئ، وهم يخدعونه وينادونه بالأمان، فراح عبد الرحمن يناديه ويحثه على السباحة، ويحذره من غدر العباسيين وخداعهم، إلا أنه كان قد بلغ من التعب والإجهاد ما جعله يغتر بأمانهم ويؤمل في عهودهم، فرجع إليهم، وما كاد يصل إليهم وتتلقاه أيديهم، حتى أحاطوا به بعد أن تمكنوا منه، وضربوا عنقه أمام أخيه، وهو ينظر إليه، ولا يملك له شيئًا. وظلت تلك الصورة الدامية لمصرع أخيه محفورة في ذهنه، ماثلة أمام عينيه، وكأنها مطبوعة على مقلتيه، تلهب حماسه للثأر من العباسيين والانتقام لأخيه الصغير الذي ذبحوه أمام عينيه. الوصول إلى إفريقية وصل "عبد الرحمن الداخل" إلى إفريقية بعد عناء شديد، وما لبث أن لحق به مولاه "بدر" الرومي ومولاه "سالم"، ومعهما كثير من أمواله التي تركها هناك. ولم تكن الأمور في "إفريقية" بأقل سوءًا مما تركها في المشرق، فقد صار "عبد الرحمن بن حبيب الفهري" –والي إفريقية- يسوم الأمويين الفارين إلى بلاده قتلاً وذبحًا، يستحل دماءهم وينهب أموالهم، بعد أن كان حليفًا لهم بالأمس القريب. عبد الرحمن عند أخواله من البربر ونزل "عبد الرحمن الداخل" على أخواله "بني نقرة" –من بربر طرابلس- وعندما علم "عبد الرحمن بن حبيب ذلك أخذ يتحين الفرصة لقتله، ويحتال لاستدراجه، كما فعل بغيره من أبناء عمومته. وأدرك "عبد الرحمن الداخل" ما يدبره له؛ فخرج إلى مكناسة، ونزل على قوم من قبيلة زناته البربرية؛ فأحسنوا استقباله وناصروه، ولكن "عبد الرحمن بن حبيب" لم يكف عن طلبه وتتبعه، فهرب إلى "برقة"، وظل مستخفيًا بها مدة طويلة، استطاع خلالها الاتصال بعدد كبير من قبائل البربر، واستجار ببني رستم ملوك تيهرت، وراح يجمع حوله أشتات الأمويين الذين فروا من اضطهاد العباسيين، وأمراء البيت المرواني الذين نجوا من الذبح. الطريق إلى الأندلس وكان "عبد الرحمن الداخل" طوال تلك المدة يراقب الأمور من حوله بوعي وحذر، ويدرس أحوال الأندلس بعناية ليتحين الفرصة المناسبة للعبور إليها. واستطاع "عبد الرحمن" بمساعدة مولاه "بدر" الاتصال بعدد كبير من الموالين للأسرة المروانية وأنصار الأمويين في الأندلس، وراح يوثق علاقاته بكل خصوم العباسيين في تلك البلاد؛ فالتف حوله عدد كبير من المؤيدين، واستطاع كسب المزيد من الأنصار خاصة من جماعات البربر، الذين وجدوا فيه الأمل لاستعادة نفوذهم، وعقدوا عليه الرجاء في التخلص من الأوضاع المتردية التي صاروا إليها. وتجمع حول "عبد الرحمن الداخل" أكثر من ثلاثة آلاف فارس، كلهم يدين له بالولاء، ويوطن نفسه على أن يقتل دونه. وتقدم "عبد الرحمن" نحو "قرطبة" حاضرة الأندلس وعاصمتها، واستعد له واليها "يوسف بن عبد الرحمن الفهري"، فيمن تمكن من حشده من قوات. ودقت طبول الحرب وكان "يوسف الفهري" كبير السن ضعيف البنية، فكان جل اعتماده على "الصُّمَيل" الذي قرر أن يستعين بأهل السوق للاشتراك في القتال، فخرجوا يحملون العصي والسيوف، وخرج الجزارون بسكاكينهم وأرباب الحرف بآلاتهم. وأصبح "الصُّمَيل" هو القائد الأعلى لقوات "يوسف الفهري" وموضع ثقته، ومحل مشورته. وسعي "الصُّمَيل" إلى المكر والخداع، ورأى في صغر سن "عبد الرحمن الداخل" وقرب عهده بزوال ملك آبائه ما يغريه بالرضا بالأمان والقناعة بالنعمة ورغد العيش بدلاً من حياة الأخطار والصعاب التي يواجهها، فأشار على "يوسف الفهري" أن يغري "عبد الرحمن" بالزواج من ابنته ويجعله واحدًا من قواده ليأمن جانبه ويتقي خطره، ولكن فشلت تلك الحيلة، ولم يعد هناك من سبيل غير الحرب. الانتصار العظيم وميلاد دولة الأمويين في الأندلس والتقى الفريقان بالقرب من "قرطبة"، وبالرغم من صغر سن "عبد الرحمن الداخل" الذي لم يتجاوز السادسة والعشرين من عمره، فإنه أبدى من صنوف المهارة والفروسية والقيادة ما جعله يتمكن من إحراز انتصار حاسم والتغلب على قوات "عبد الرحمن الفهري" وإلحاق هزيمة منكرة بجيشه. ودخل "عبد الرحمن" قرطبة فصلّى بالناس، وخطب فيهم، فكان ذلك بمثابة إعلان ميلاد الدولة الأموية في الأندلس، وبويع له بالخلافة في (10 من ذي الحجة 138هـ= 18 من مايو 756م)، ليصبح أول أموي يدخل الأندلس حاكمًا، ويطلق عليه ذلك اللقب الذي عُرف به "عبد الرحمن الداخل"، ومؤسس تلك الدولة الفتية التي أصبحت حضارتها منبعًا لحضارة أوروبا الحديثة، وظلت منارًا للعلم والمدنية عبر قرون طويلة من الزمان.
|
#14
|
|||
|
|||
عماد الدين زنكي.. خدم الإسلام وقتلته الباطنية
أدرك زنكي أن التوحد قرين التوحيد في خضم الاجتياح الصليبي للمشرق الإسلامي كان المسلمون يتطلعون إلى قائد قوي وزعيم مخلص يلم شعثهم، ويجمع شتاتهم، ويوحد جهودهم، ويسير بهم نحو غايتهم المنشودة وهدفهم الأسمى في طريق الجهاد والتحرير. فإن الأرض التي أنبتت أولئك الأبطال العظام الذين قادوا حركة التاريخ، ورفعوا لواء الإسلام، وتقدموا بالمسلمين نحو الأمجاد والبطولات، لم تجدب عن أن تقدم جيلاً من القادة الأمجاد، يستكملون مسيرة الآباء، ويعيدون مجد الأجداد. ولم تعقم الأرحام التي أنجبت رهبان الليل وفرسان النهار أن تنجب جيلاً من الأبناء والأحفاد، الذين توارثوا مجد الآباء وشرف الأجداد. وفي ليل اليأس المطبق وظلام الانكسار الموجع والاستسلام المهين، لاحت بارقة أمل في العيون، ما لبثت أن صارت شعاعًا توهج ليضيء الطريق، فانتبهت النفوس من غفوتها، وأفاقت القلوب من حسرتها، وتلاقت الهمم وتوحدت السواعد، والتف الجميع حول ذلك البطل المرتقب الذي جاء ليحقق الحلم، ويجدد الأمل، ويمحو شبح الهزيمة، ويعيد العزة والكرامة إلى ملايين المسلمين، ليس في عصره فقط، وإنما لجميع المسلمين عبر العصور والأزمان. وكان ذلك البطل هو "عماد الدين زنكي". أسرة عماد الدين وُلد "عماد الدين زنكي بن آق سنقر بن عبد الله آل ترغان" نحو سنة [477هـ = 1084م] في أسرة تنتمي إلى قبائل "الساب يو" التركمانية، وكان والده "آق سنقر" مملوكًا للسلطان السلجوقي "ملكشاه"، وكان مقربًا إليه، ذا حظوة ومكانة لديه، وقد اعتمد عليه في كثير من الأمور فلم يخذله قط، وهو ما جعله ينال ثقته ورضاه، وزاد من منزلته عنده، ورفع من قدره لديه. واشترك "آق سنقر" في كثير من معارك السلاجقة؛ فولاه السلطان "ملكشاه" ولاية "حلب"، واستطاع "آق سنقر" – خلال تلك الفترة - أن ينشر الأمن في البلاد، ويوقف أعمال السلب والنهب التي انتشرت في ذلك الوقت، وألحقت ضررًا بالغًا بالزراعة والتجارة، بعد أن تصدى لنشاط قطاع الطرق واللصوص، وكتب إلى عماله يأمرهم بتتبع المفسدين وتوفير الأمن والحماية للمسافرين. وكانت العلاقة بين السلطان "ملكشاه" وبين "آق سنقر" تقوم على التفاهم المشترك والتقدير المتبادل بينهما. فلما توفى "ملكشاه" عام [485هـ = 1096م]، تولى الحكم من بعده ابنه "بريكا روق"، فثار عليه عمه "تاج الدين تتش"، وتصدى له "آق سنقر" بجيوشه، ولكن "تتش" تمكن من هزيمة قواته في [جمادي الأولى 487هـ = مايو 1094م] وأسره، وما لبث أن قتله. وهكذا بذل "آق سنقر" حياته وفاءً لسلطانه "ملكشاه"، وحفاظًا على ولده "بركيا روق" من بعده. تضحية ووفاء ولم ينس السلطان الجديد تضحية "آق سنقر" في سبيل عرشه ووفاءه له، فوجه جل اهتمامه وعنايته نحو ابنه الوحيد "عماد الدين زنكي" الذي لم يتجاوز العاشرة من عمره. وأقام "عماد الدين" في "حلب" في رعاية مماليك أبيه، ثم ما لبث أن انتقل عام [489هـ = 1096م] إلى "الموصل" ليحظى برعاية القائد السلجوقي "كربوقا"، فظل ملازمًا له حتى تُوفِّي سنة [495هـ = 1101م]، فخلفه عليها "شمس الدين جكرمش" الذي قرّ به وأحبه واتخذه ولدًا، وظل "عماد الدين" ملازمًا له حتى تُوفِّي سنة [500هـ = 1106م]، فتولى "الموصل" من بعده "جاولي سقاو"، وتوطدت علاقة "عماد الدين" بالوالي الجديد، حتى خرج ذلك الوالي على السلطان، فانفصل "عماد الدين" عنه، وانضم إلى الوالي الجديد "مودودو به التونتكين" الذي عينه السلطان على الموصل، وكان ذلك مدعاة إلى إكبار السلطان له، وثقته فيه، وزيادة حظوته ومكانته عنده. بطل وبطولات واشترك "عماد الدين" مع "مودود" في معاركه الكثيرة التي خاضها ضد الصليبيين في "الشام" و"الجزيرة"، وقد لفت إليه الأنظار بشجاعته الفائقة ومهارته القتالية العالية. وعندما تولى السلطان السلجوقي "محمود" - بعد وفاة السلطان "محمد" سنة [511هـ = 1117م) - حدثت عدة محاولات للثورة ضده، ولكن "عماد الدين" ظل على ولائه للسلطان، فاستطاع أن يحظى بثقته فيه وتقديره له، كما أثبت جدارته في ولايته الجديدة بواسط، وتمكن من صد هجمات الأعراب الدائمة عليها، ونشر الأمن في ربوعها. ومع مطلع عام [517هـ = 1123م] استطاع السلاجقة – بفضل الخطة البارعة التي اتبعها "عماد الدين" – أن يلحقوا هزيمة ساحقة بجيوش "دبيس" الخارج على الخليفة العباسي، وخلّصوا الخلافة من خطر محقق كاد يعصف بها، فانضم "دبيس" إلى الصليبيين بعد هزيمته، وساهم معهم في حصار "حلب" طمعًا في الاستيلاء عليها. الهروب إلى تكريت وعندما تدهورت العلاقات بين الخليفة العباسي المسترشد والسلطان السلجوقي "محمود" في عام [519هـ = 1125م] كان لعماد الدين دور كبير في إنهاء الصراع بينهما، وتجاوز الأزمة بأمان قبل أن يتفاقم الموقف، وتحدث مواجهة وخيمة العواقب بين الطرفين. وعندما تُوفّي السلطان "محمود" في منتصف عام [525هـ = 1131م] أراد السلطان "مسعود بن محمد" – حاكم "أذربيجان" – الاستيلاء على عرش السلاجقة في العراق، واستطاع استمالة "عماد الدين" لمساعدته في المطالبة به، ولكن أخاه "سلجوقشاه" الطامح أيضًا في العرش سبقه إلى الخليفة العباسي ليحظى بموافقته، ودارت معركة بين الطرفين انتهت بهزيمة "عماد الدين"، وأسر عدد كبير من قواته، وهو ما اضطره إلى اللجوء إلى "تكريت"؛ حيث أحسن واليها "نجم الدين أيوب" استقباله وأكرم وفادته، وساعده حتى تمكن من إعادة تنظيم قواته. عماد الدين والسلطان مسعود واستطاع "مسعود" أن يصبح سلطانًا على السلاجقة في العراق وبلاد فارس، بعد أن قضى على منافسيه، ورفض "عماد الدين" الخضوع للسلطان الجديد، فساءت العلاقة بينهما، وفي الوقت نفسه دخل "عماد الدين" في صراع آخر مع الخليفة العباسي، الذي خرج إليه على رأس ثلاثين ألف مقاتل، وحاصره نحو ثمانين يومًا، ولكن "عماد الدين" استطاع الصمود والمقاومة حتى عرض عليه الخليفة "المسترشد" الصلح في مطلع عام [528هـ = 1133م]، فوافق "عماد الدين" دون تردد. ثم ما لبثت أن تحسنت العلاقات بين السلطان "مسعود" و"عماد الدين زنكي"، وإن ظل السلطان غير مطمئن لِمَا كان يتمتع به "عماد الدين" من استقلال، وما يمتلكه من نفوذ ظل يتسع على مر الأيام. العالم الإسلامي والحرب الصليبية الأولى استطاع الصليبيون- بعد حملتهم الصليبية الأولى- أن يستولوا على جزء كبير من بلاد الشام والجزيرة خلال الفترة من [489هـ = 1069م] إلى [498هـ = 1105م]، وأنشئوا فيها إماراتهم الصليبية الأربع: الرها، وإنطاكية، وطرابلس، وبيت المقدس. وأصبح الوجود الصليبي في المشرق الإسلامي يشكل خطرًا بالغًا على بقية بلاد المسلمين، خاصة أن العالم الإسلامي- في ذلك الوقت- كان يعاني حالة من الفوضى والتشتت والضياع، بسبب تنازع الحكام والولاة، والخلاف الدائم بين العباسيين والفاطميين من جهة، وبين الخلافة العباسية التي بدأ الضعف يدب إليها ومحاولات التمرد والاستقلال عنها التي راحت تتزايد يومًا بعد يوم من جهة أخرى. وسعى الصليبيون إلى بسط نفوذهم وإحكام سيطرتهم على المزيد من البلاد إليهم، وإنشاء إمارات صليبية جديدة؛ لتكون شوكة في ظهر العالم الإسلامي، تمهيدًا للقضاء التام عليه. الاستعداد للمعركة الكبرى ولم يشأ "عماد الدين" أن يدخل في حرب مع الصليبيين منذ البداية، فقد كان يريد أن يوطد دعائم إمارته الجديدة، ويدعم جيشه، ويعزز إمكاناته العسكرية والاقتصادية قبل أن يقدم على خوض غمار المعركة ضد الصليبيين. وعمل على توحيد الإمارات الصغيرة المتناثرة من حوله تحت لواء واحد، فقد كان خطر تلك الإمارات المتنازعة لا يقل عن خطر الصليبيين المحدق بهم، وذلك بسبب التنازع المستمر بينهم، وغلبة المصالح الخاصة والأهواء على أمرائهم. ومن ثم فقد عمل على تهيئة الأمة الإسلامية وتوحيدها قبل أن يخوض معركتها المرتقبة. واستطاع الاستيلاء على "حلب"، كما هاجم عددًا من المواقع الصليبية المحيطة بها، وتمكن من الاستيلاء على خمسة منها، كما تمكن من الاستيلاء على "بعرين" التي وجد الصليبيون في استيلائه عليها خطرًا يهدد الإمارات الصليبية في المشرق، وحاول الصليبيون إنقاذ "بعرين"، ولكن حملتهم التي قادها الإمبراطور البيزنطي "حنا كومنين" فشلت في ذلك. وعمل "عماد الدين" على تفتيت التحالف الخطير الذي قام بين الصليبيين في الشام والبيزنطيين، واستطاع أن يزرع الشك بين الطرفين ليقضي على التعاون بينهما، كما سعى في الوقت نفسه إلى طلب النجدات العسكرية من مختلف أنحاء العالم الإسلامي. الطريق إلى الرها وسعى "عماد الدين" للاستيلاء على "دمشق" ليوحد الجبهة الشامية تمهيدًا للقائه المرتقب مع الصليبيين، إلا أن أمراءها استنجدوا بالصليبيين، وهو ما اضطره إلى التراجع عنها. واستطاع أن يدعم موقفه بالاستيلاء على بعض المواقع وعدد من الحصون الخاضعة لإمارة "الرها" الصليبية، وتمكن بذلك من قطع الاتصال بين أمير "الرها" وبين حلفائه. وكانت إمارة "الرها" واحدة من أهم الإمارات الصليبية في المشرق، وذلك لقوة تحصينها، وقربها من "العراق" التي تمثل مركز الخلافة الإسلامية، ونظرًا لما تسببه من تهديدات وأخطار للمناطق الإسلامية المجاورة لها. ومن ثم فقد اتجهت نية "عماد الدين" إلى إسقاطها، وصح عزمه على فتحها، وراح يدرس الموقف بدقة، فأدرك أنه لن يتمكن من فتح "الرها" إلا إذا استدرج "جوسلين"- أمير "الرها"- وقواته خارجها، فلجأ إلى حيلة بارعة أتاحت له الوصول إلى مأربه؛ إذ تظاهر بالخروج إلى "آمد" لحصارها، وفي الوقت نفسه كان بعض أعوانه يرصدون تحركات أمير "الرها"، الذي ما إن اطمأن إلى انشغال "عماد الدين" عنه بحصار "آمد" حتى خرج بجنوده إلى "تل باشر"- على الضفة الغربية للفرات- ليستجم ويتفرغ لملذاته. وقد كان هذا ما توقعه "عماد الدين"، فأسرع بالسير إلى "الرها" في جيش كبير، واستنفر كل من يقدر على القتال من المسلمين لجهاد الصليبيين، فاجتمع حوله حشد هائل من المتطوعين، فحاصر "الرها" من جميع الجهات، وحاول التفاهم مع أهل "الرها" بالطرق السلمية، وبذل جهدًا كبيرًا لإقناعهم بالاستسلام، وتعهد لهم بالأمان، ولكنهم أبوا، فما كان منه إلا أن شدد الحصار عليهم، واستخدم الآلات التي جلبها معه لتدمير أسوار المدينة قبل أن يتمكن الصليبيون من تجميع جيوشهم لإنقاذ المدينة. حصار الرها وسقوطها وبعد (28) يومًا من الحصار انهارت بعض أجزاء الحصن، ثم ما لبثت القلعة أن استسلمت لقوات "عماد الدين" في [28 من جمادي الآخرة 539هـ = 27 من نوفمبر 1144م]، فأصدر "عماد الدين" أوامره إلى الجند بإيقاف أي أعمال للقتل أو الأسر أو السلب، وإعادة ما استولوا عليه من غنائم وأسلاب، فأعادوا كل ما أخذوه إلى أصحابه. وبدأ من فوره عملية تجديد وإصلاحات شاملة للمدينة، فأعاد بناء ما تهدم من أسوارها، وتعمير ما ضرب في الحرب أثناء اقتحام المدينة، وسار في أهلها بالعدل وحسن السيرة، حتى يعموا في ظله بالأمن والعدل، واحتفظوا بكنائسهم وأوديتهم فلم يتعرض لهم في عبادتهم وطقوسهم. لغز اغتيال عماد الدين كان فتح "الرها" هو أجلّ وأعظم أعمال "عماد الدين"، ولم يمض عامان على ذلك النصر العظيم، حتى تم اغتياله في [6 من ربيع الآخرة 541هـ = 15 من سبتمبر 1146م] خلال حصاره لقلعة "جعبر" على يد "يرنقش"- كبير حرسه- الذي تسلل إلى مخدعه فذبحه وهو نائم. ويرى عدد من المؤرخين أن اغتيال "عماد الدين" جاء لأسباب سياسية أكثر منها شخصية، فقد كان في أوج انتصاره على الصليبيين، كما حقق انتصارًا آخر على المستوى الإسلامي بعد أن نجح في توحيد الصفوف وتكوين جبهة إسلامية قوية، ومن ناحية أخرى فقد كانت قلعة "جعبر" على وشك السقوط بعد أن بلغ حصاره لها مداه، فضلاً عن أن قاتله "يرنقش" كان من الباطنية، وقد استطاع التستر والانتظار طويلاً- على عادة الباطنية- حتى حانت اللحظة المناسبة لتنفيذ جريمته، فاغتال "عماد الدين" وهو في قمة مجده وانتصاره.
|
#15
|
|||
|
|||
نور الدين محمود.. وبناء الوحدة الإسلامية
(في ذكرى مولده: 17 من شوال 511هـ) أحمد تمام ظهر نور الدين محمود على مسرح الأحداث في النصف الأول من القرن السادس الهجري، والناس في أشد الحاجة إلى مثله ليأخذ بيدهم من حلكة الظلام الدامس الذي اكتنف بلادهم، منذ أن وطئتها أقدام الصليبيون، ودنست أرجلهم مدينة القدس، ولم تلمع في الأفق بوادر الأمل وإشراقات الصباح؛ فالفوضى تعم بلاد الشام، والأمراء والحكام مشغولون بأنفسهم وأطماعهم، والمحتل الوافد ترتفع قامته على خلافات المسلمين وتطاحنهم وتزداد قوته بتناحرهم وتنازعهم، ولولا بقية من أمل ظلت تعمل في قلوب بعض المخلصين لحدث ما لا تحمد عقباه. وجاء أول بصيص للأمل مع ظهور "عماد الدين زنكي" الذي استطاع بقدرته وكفاءته أن يلي الموصل وأن يثبّت أقدامه فيها، ونجح في أن يمد سلطانه إلى نصيبين وحران، وهيأ نفسه لكي يقوم بحركة الجهاد ضد الصليبيين، وأدرك أن ذلك لن يتحقق ما لم تتحدد القوى الإسلامية في العراق والشام، فتطلع إلى حلب وكانت غارقة في بحر من الفوضى بعد وفاة أتابكها "عز الدين مسعود البرسقي"، ويتنازع عليها السلاجقة والصليبيون للاستيلاء عليها، فتحرك عماد الدين وأفسد على الطامعين خططهم ووضع يده على حلب في سنة (522هـ = 1128م) ثم لم يلبث أن تعثرت خطاه بفعل الصراعات الداخلية في المنطقة التي أشعلها بعض الأمراء ضده؛ خوفا من ازدياد نفوذه في شمالي الشام والعراق، فقضى زمنا يدفع تلك الأخطار عن نفسه حتى تمكن من بسط نفوذه وترسيخ أقدامه، واحتاج ذلك وقتا طويلا استهلك من عمره سبع سنوات قبل أن يفرغ لمنازلة الصليبيين، حتى تمكن من فتح مدينة الرها سنة (538هـ = 1144م) وكان ذلك ضربة قوية للكيان الصليبي؛ لأن الرها كانت أولى الإمارات الصليبية التي تأسست في الشرق إبان الحملة الصليبية الأولى، ولم يهمل القدر عماد الدين لكي يواصل أعماله، حيث اغتالته يد الغدر في (6 من ربيع الثاني 541هـ = 14 من سبتمبر 1147م). نور الدين محمود ولد نور الدين محمود في (17 من شوال 511هـ = 11 من فبراير 1118م) وهو ثاني أولاد عماد الدين زنكي بعد سيف الدين غازي، وقد تأثر أبناء عماد الدين بما كان لأبيهم من خلال وفضائل، فكانوا جميعا من رجال الجهاد وفرسانه، على تفاوت في ذلك بينهم. وبعد وفاة عماد الدين زنكي اقتسم ولداه: سيف الدين غازي ونور الدين محمود دولته، فاستقر الأول بالموصل وثبّت أقدامه بها، وانفرد الآخر بحكم حلب، وكان الحد الفاصل بين أملاك الأخوين هو نهر الخابور، وكان كلا الأخوين مؤهلا لما وجهته له الأقدار، فكان سيف الدين غازي صاحب سياسة وأناة، على حين كان نور الدين مجاهدا مخلصا جياش العاطفة صادق الإيمان، ميالا إلى جمع كلمة المسلمين وإخراج الأعداء من ديار المسلمين، مفطورا على الرقة ورهافة الشعور؛ وهو ما جذب الناس إليه، وحبب القلوب فيه. وكان على نور الدين أن يواصل سياسة أبيه في جهاد الصليبيين، يدفعه إلى ذلك طبيعته المفطورة على حب الجهاد، وملازمته لأبيه في حروبه معهم. وقرب إمارته في حلب من الصليبيين جعله أكثر الناس إحساسا بالخطر الصليبي. الجهاد ضد الصليبيين استهل نور الدين حكمه بالقيام ببعض الهجمات على إمارة إنطاكية الصليبية، واستولى على عدة قلاع في شمال الشام، ثم قضى على محاولة "جوسلين الثاني" لاستعادة الرها التي فتحها عماد الدين زنكي وكانت هزيمة الصليبيين في الرها أشد من هزيمتهم الأولى، وعاقب نور الدين من خان المسلمين من أرمن الرها، وخاف بقية أهل البلد من المسيحيين على أنفسهم فغادروها. وكان نور الدين دائم السعي إلى استمالة القوى الإسلامية المتعددة في شمال العراق والشام وكسب ودها وصداقتها؛ لتستطيع مواجهة العدو الصليبي، فعقد معاهدة مع "معين الدين أنر" حاكم دمشق سنة (541هـ = 1147م) وتزوج ابنته، فلما تعرض أنر لخطر الصليبيين وكانت تربطه بهم معاهدة وحلف لم يجد غير نور الدين يستجير به، فخرج إليه، وسارا معا واستوليا على بصرى وصرخند قبل أن يقعا في يد الصليبيين، ثم غادر نور الدين دمشق؛ حتى يبعث في قلب حاكمها الأمان، وأنه لا يفكر إلا في القضاء على الصليبيين؛ فتوجه إلى حصون إمارة إنطاكية، واستولى على أرتاح وكفر لاثا وبصرفوت. وعلى أثر ذلك ملك الرعب قلوب الصليبيين من نور الدين، وأدركوا أنهم أمام رجل لا يقل كفاءة وقدرة عن أبيه عماد الدين، وكانوا قد ظنوا أنهم قد استراحوا بموته، لكن أملهم تبدد أمام حماسة ابنه وشجاعته، وكانت سنه إذ ذاك تسعا وعشرين سنة، لكنه أوتي من الحكمة والتدبير خيرا كثيرا. وفي سنة (542هـ = 1147م) وصلت الحملة الصليبية الثانية على الشام بزعامة لويس السابع وكونراد الثالث، لكنها فشلت في تحقيق أهدافها وتعرضت لخسائر هائلة، وعجزت عن احتلال دمشق، ويرجع الفضل في ذلك لصبر المجاهدين واجتماع كلمة جيش المسلمين ووحدة صفهم، وكان للقوات التي جاءت مع سيف الدين غازي وأخيه نور الدين أكبر الأثر في فشل تلك الحملة، واستغل نور الدين هذه النكبة التي حلّت بالصليبيين وضياع هيبتهم للهجوم على إنطاكية بعد أن ازداد نفوذه في الشام، فهاجم في سنة (544هـ=1149م) الإقليم المحيط بقلعة حارم الواقعة على الضفة الشرقية لنهر العاصي، ثم حاصر قلعة إنب، فنهض "ريموند دي بواتيه" صاحب إنطاكية لنجدتها، والتقى الفريقان في (21 من صفر 544هـ= آخر يونيو 1149م) ونجح المسلمون في تحقيق النصر وأبادوا الصليبيين عن آخرهم، وكان من جملة القتلى صاحب إنطاكية وغيره من قادة الفرنج وكان فرح المسلمون بهذا النصر عظيما. ضم دمشق آمن نور الدين بضرورة وحدة الصف، وانتظام القوى الإسلامية المبعثرة بين الفرات والنيل حتى تقف كالبنيان المرصوص أمام أطماع الصليبيين، وكانت دمشق تقف حجرة عثرة في طريق تلك الوحدة، وكان معين الدين أنر صاحب السلطة الفعلية في دمشق يرتبط بعلاقات ودية مع الصليبيين ومعاهدات وتحالفات، وبعد وفاته قام "مجير الدين أبق" بحكم دمشق، وجرى على سياسة أنر في التعامل مع الصليبيين، بل أظهر ضعفا ومذلة في التعامل معهم، وأعرض عن وحدة الصف وجمع الكلمة، وبلغ الهوان به أن وافق على أن يدفع أهل دمشق ضريبة سنوية للصليبيين مقابل حمايتهم، وصار رسل الفرنجة يدخلون دمشق لجمع الجزية المفروضة دون أن يستشعر حاكمها خجلا أو هوانا. ولم يسكت نور الدين على هذا الوضع المهين، واستثمر شعور الغضب الذي أبداه الدمشقيون، ونجح بمساعدتهم في الإطاحة بمجير الدين أبق وضم دمشق إلى دولته في سنة (549هـ = 1154م) وكانت هذه الخطوة حاسمة في تاريخ الحروب الصليبية؛ حيث توحدت بلاد الشام تحت زعامة نور الدين: من الرها شمالا حتى حوران جنوبا، واتزنت الجبهة الإسلامية مع الجبهة الصليبية التي كانت تستغل حالة التشتت والتشرذم، وتوجه ضرباتها إلى دولة الإسلام حتى إن نور الدين لم يستطع نجدة عسقلان عندما هاجمها الصليبيون سنة (548هـ = 1153م) لأن دمشق كانت تقف حائلا دون تحقيق ذلك. الطريق إلى مصر بعد نجاح نور الدين في تحقيق المرحلة الأولى من توحيد الجبهة الإسلامية لم يعد أمام الصليبيين للغزو والتوسع سوى طريق الجنوب بعد أن أحكم نور الدين سيطرته على شمالي العراق والشام؛ ولذا تطلع الصليبيون إلى مصر باعتبارها الميدان الجديد لتوسعهم، وشجعهم على ذلك أن الدولة الفاطمية في مصر تعاني سكرات الموت فاستولوا على عسقلان، وكان ذلك إيذانا بمحاولتهم غزو مصر، مستغلين الفوضى في البلاد، وتحولت نياتهم إلى عزم حيث قام "بلدوين الثالث" ملك بيت المقدس بغزو مصر سنة (558هـ = 1163م) محتجا بعدم التزام الفاطميين بدفع الجزية له، غير أن حملته فشلت وأجبر على الانسحاب. وأثارت هذه الخطوة الجريئة مخاوف نور الدين، فأسرع بشن حملات على الصليبيين في الشام حتى يشغلهم عن الاستعداد لغزو مصر، ودخل في سباق مع الزمن للفوز بمصر، فأرسل عدة حملات إليها تحت قيادة "أسد الدين شيركوه" وبصحبته ابن أخيه صلاح الدين الأيوبي، ابتدأت من سنة (559هـ = 1164م) واستمرت نحو خمس سنوات حتى نجحت بعد سباق محموم مع الصليبيين في الظفر بمصر سنة (564هـ = 1169م) وتولى شيركوه الوزارة للخليفة "العاضد" آخر الخلفاء الفاطميين، على أنه لم يلبث أن توفي بعد شهرين فخلفه في الوزارة صلاح الدين الأيوبي. نجح صلاح الدين الأيوبي في إقامة الأمن واستتباب الأمور وتثبيت أقدامه في البلاد، وجاءت الفرصة المناسبة لإسقاط دولة الفاطميين؛ فقطع الدعاء للخليفة الفاطمي ودعا للخليفة العباسي في أول جمعة من سنة (567هـ = سبتمبر 1171م). وكان لدخول مصر تحت حكم دولة نور الدين محمود دوي هائل، لا في مملكة بيت المقدس وحدها بل في الغرب الأوروبي كله، وارتفعت الأصوات لبعث حملة جديدة تعيد للصليبيين في الشام هيبتهم وسلطانهم، وتوجه لمصر ضربات قوية، غير أن حملتهم على مصر لم تحقق أهدافها ليقظة صلاح الدين في مصر. وبنجاح نور الدين في ضم مصر إلى جبهة الكفاح يكون قد حقق الحلقة الأخيرة من حلقات الجبهة الإسلامية تمهيدا للضربة القاضية. نور الدين في التاريخ كان نور الدين مؤمنا بالإسلام وعظمته؛ وهو ما جعله يحقق ما عجز عنه غيره ممن كانوا أوسع منه بلادا وأعظم مالا ونفقة، ولم يكن يحارب الصليبيين على أنهم نصارى بل على أنهم أجانب عن بلاد العرب والمسلمين جاءوا لاحتلال الأرض وتدنيس المقدسات؛ ولذا لم يمس نصارى بلاده بسوء، بل كانوا عنده مواطنين لهم حق الرعاية الكاملة، فلم يهدم كنيسة ولا آذى قسا أو راهبا. ولم يشغله الجهاد وتوحيد الصف عن إقامة المدارس والمساجد حتى بلغت مدارسه ومساجده المئات، لا يخلو منها بلد دخل تحت سلطانه، وكان إذا أنشأ مدرسة أوسع النفقة في بنائها، واجتهد في اختيار شيوخها، وأوقف عليها الأوقاف الكثيرة، وكانت مدارسه تُعنى بالقرآن والحديث، وكان له شغف بالحديث وسماعه من جلّة المحدثين، وأجازه بعضهم بالرواية. وإلى جانب إنشاء المدارس توسع في إقامة البيمارستانات في كل بلدة تحت حكمه، وجعلها للفقراء الذين لا تمكنهم دخولهم من الاستعانة بالأطباء والحصول على الدواء، كما حرص على إقامة الخانات على الطرق لينزل بها المسافرون للراحة أو للمبيت، وجعل عليها من يحرصها ويحافظ على زائريها. وكان نور الدين مؤمنا صادق الإيمان، ومجاهدا عظيما، وزاهدا متصوفا لا ينام إلا منتصف الليل ثم ينهض فيتوضأ، ويقبل على الصلاة والدعاء، حتى يقبل الصباح فيصليه ثم يأخذ في شئون دولته. ولزهده في أبهة الحكم والسلطان لم يكن له راتب يتقاضاه، وإنما كان يأكل ويلبس من ملك له كان قد اشتراه من ماله، ولم يكن له بيت يسكنه، وإنما كان مقامه في غرفة في قلعة البلد الذي يحل فيه. وفاة نور الدين محمود وبينما كان نور الدين محمود يستعد للسير إلى مصر، فاجأته الحمى، واشتد به المرض حتى لقي الله في (11 من شوال 569هـ = 15 من مايو 1174م) وهو في التاسعة والخمسين من عمره، وكان لموته رجة عنيفة في العالم الإسلامي، وشعر الناس بحجم الخسارة، وعظم المصيبة التي حلت بهم. وشاء الله تعالى أن تظل سلسلة المجاهدين قائمة، فكلما غاب من الميدان زعيم نهض من بعده زعيم، وكل خلف يزيد عن سابقه في المواهب والملكات، حتى انتهت الراية إلى صلاح الدين الأيوبي فحقق ما كان أمنية في الصدور وخاطرا في العقول.
|
#16
|
|||
|
|||
صلاح الدين.. أخلاق الفارس الإسلامي
صلاح الدين شاءت الأقدار أن يتولى صلاح الدين الأيوبي الوزارة للخليفة العاضد الفاطمي، سنة (564هـ = 1168م)، خلفا لعمه "أسد الدين شيركوه" الذي لم ينعم بالوزارة سوى أشهر قليلة، وبتوليه هذا المنصب تغيرت حركة التاريخ في القرن السادس الهجري، فسقطت دولة كانت في النزع الأخير، وتعاني سكرات الموت، وقامت دولة حملت راية الجهاد ضد الإمارات الصليبية في الشام، واستردت بيت المقدس من بين مخالبهم، بعد أن ظل أسيرا نحو قرن من الزمان. صلاح الدين وزيرًا شهدت السنوات الأخيرة من عمر الدولة الفاطمية في مصر صراعا محموما بين "شاور" و"ضرغام" على منصب الوزارة، ولم ينجح واحد منهما في حسم الصراع لمصلحته، والانفراد بالمنصب الكبير، فاستعان كل منهما بقوة خارجية تعينه على تحقيق هدفه؛ فاستعان ضرغام بالصليبيين، واستعان الآخر بنور الدين محمود سلطان حلب، فلبَّى الفريقان الدعوة، وبدأ سباق بينهما لاستغلال هذا الصراع كلٌّ لصالحه، والاستيلاء على مصر ذات الأهمية البالغة لهما في بسط نفوذهما وسلطانهما في تلك المنطقة. وانتهى الصراع بالقضاء على الوزيرين المتنافسين سنة (564هـ = 1168م)، وتولى "أسد الدين شيركوه" قائد حملة نور الدين منصب الوزارة للخليفة العاضد الفاطمي، ثم لم يلبث أن تُوفي شيركوه فخلفه في الوزارة ابن أخيه صلاح الدين الذي كان في الثانية والثلاثين من عمره. وزير سنِّي في دولة شيعية كانت المفارقة أن يتولى صلاح الدين السُّني المذهب الوزارة لدولة شيعية، وأن يدين في الوقت نفسه بالولاء لنور الدين الزنكي سلطان حلب التابع لدولة الخلافة العباسية، وتحولت مهمته من منع مصر من السقوط في أيدي الصليبيين إلى السعي في ردها إلى أحضان الخلافة العباسية. ولم يكن لصلاح الدين من سابق الأعمال أو خبرة السنين ما يُسَهِّل عليه القيام بهذه المهمة الصعبة، لكنه نجح في أدائها على نحو يثير الإعجاب، والتقدير، واستعان في تحقيقها بوسائل جديدة تدل على فرط الذكاء وعمق البصيرة، وحسن التصرف، وقوة الإدراك والوعي بحركة التاريخ، وتفضيل التغيير السلمي الواعي على غيره من وسائل التغيير، وتهيئة الأجواء له حتى لا تصطدم به أي عوائق. ولكي ينجح صلاح الدين في تحقيق هدفه كان عليه أن يقوي المذهب السني في مصر؛ حتى يتمكن من إسقاط الدولة الفاطمية، وإلغاء المذهب الإسماعيلي الشيعي، واستغرقت هذه المهمة ثلاث سنوات، لجأ في أثنائها إلى العمل المتأني والخطوات المحسوبة، فعزل القضاة الشيعيين، وأحل محلهم قضاة من أهل السنة، وأنشأ عددا من المدارس لتدريس الفقه السني. حتى إذا وجد أن الفرصة المناسبة قد لاحت، وأن الأجواء مستعدة للإعلان عن التغيير، أقدم على خطوة شجاعة، فأعلن في الجمعة الأولى من شهر المحرم (567هـ = سبتمبر1171) قطْع الخطبة للخليفة الفاطمي الذي كان مريضًا وملازمًا للفراش، وجعلها للخليفة العباسي، فكان ذلك إيذانا بانتهاء الدولة الفاطمية، وبداية عصر جديد. بناء الوحدة الإسلامية قضى صلاح الدين السنوات الأولى بعد سقوط الدولة الفاطمية في تثبيت الدولة الجديدة، وبسط نفوذها وهيبتها على كل أرجائها، خاصة أن للدولة الفاطمية أنصارًا وأعوانًا ساءهم سقوطها، وأحزنهم إضعاف مذهبها الإسماعيلي، فناهضوا صلاح الدين، ودبروا المؤامرات للقضاء على الدولة الوليدة قبل أن يشتد عودها، وكان أشد تلك الحركات مؤامرة "عمارة اليمني" للقضاء على صلاح الدين، وفتنة في أسوان اشتعلت لإعادة الحكم الفاطمي، لكن تلك الحركات باءت بالفشل، وتمكَّن صلاح الدين من القضاء عليها تماما. وبعد وفاة "نور الدين محمود" سنة (569هـ = 1174م) تهيأت الفرصة لصلاح الدين الذي يحكم مصر نيابة عنه، أن يتطلع إلى ضم بلاد الشام إلى حكمه؛ لتقوية الصف الإسلامي، وتوحيد الجهود استعدادا للوقوف أمام الصليبيين، وتحرير الأراضي المغتصبة من أيديهم، فانتهز فرصة استنجاد أحد أمراء دمشق به، فسار إلى دمشق، وتمكن من السيطرة عليها دون قتال سنة (570هـ = 1174م)، ثم على حمص وحماة وبعلبك، ثم أعلن عن استقلاله عن بيت نور الدين محمود وتبعيته للخلافة العباسية التي منحته لقب سلطان، وأصبح حاكما على مصر، ثم عاود حملته على الشام سنة (578هـ = 1182م)، ونجح في ضم حلب وبعض المدن الشامية، وأصبح شمال الشام كله تحت سيطرته، وتعهَّد حاكم الموصل بإرسال مساعدات حربية إذا طلب منه ذلك. واستغرق هذا العمل الشاق من أجل توحيد الجبهة الإسلامية أكثر من عشر سنوات، وهي الفترة من سنة (570هـ = 1174م) إلى سنة (582هـ = 1186م)، وهي فترة لم يتفرغ فيها تماما لحرب الصليبيين. من نصر إلى نصر اطمأن الناصر صلاح الدين إلى جبهته الداخلية، ووثق تماما في قوتها وتماسكها، فانتقل إلى الخطوة الأخرى، وانصرف بكل قوته وطاقته إلى قتال الصليبيين، وخاض معهم سلسلة من المعارك كُلِّلت بالنصر، ثم توج انتصاراته الرائعة عليهم في معركة "حطين" سنة (583هـ = 1187م)، وكانت معركة هائلة أُسر فيها ملك بيت المقدس وأرناط حاكم حصن الكرك، وغيرهما من كبار قادة الصليبيين. وترتب على هذا النصر العظيم، أن تهاوت المدن والقلاع الصليبية، وتساقطت في يد صلاح الدين؛ فاستسلمت قلعة طبرية، وسقطت عكا، وقيسارية، ونابلس، وأرسوف، ويافا وبيروت وغيرها، وأصبح الطريق ممهدا لأن يُفتح بيت المقدس، فحاصر المدينة المقدسة، حتى استسلمت وطلبت الصلح، ودخل صلاح الدين المدينة السليبة في (27 من رجب 583هـ = 2 من أكتوبر 1187م)، وكان يوما مشهودا في التاريخ الإسلامي. ارتجت أوروبا لاسترداد المسلمين لمدينتهم المقدسة، وتعالت صيحات قادتهم للأخذ بالثأر والانتقام من المسلمين، فأرسلت حملة من أقوى حملاتهم الصليبية وأكثرها عددا وعتادا، وقد تألفت من ثلاثة جيوش ألمانية وفرنسية وإنجليزية، نجح جيشان منها في الوصول إلى موقع الأحداث، في حين غرق ملك ألمانيا في أثناء عبوره نهرًا بآسيا الصغرى، وتمزق شمل جيشه. استطاع الجيش الفرنسي بقيادة "فيليب أغسطس" من أخذ مدينة عكا من المسلمين، واستولى نظيره الإنجليزي بقيادة "ريتشارد قلب الأسد" من الاستيلاء على ساحل فلسطين من "صور" إلى "حيفا"؛ تمهيدا لاستعادة بيت المقدس، لكنه فشل في ذلك، واضطر إلى طلب الصلح، فعُقد صلح بين الطرفين، عُرف بصلح الرملة في (22 من شعبان 588هـ = 2 من سبتمبر 1192م)، ولحق ريتشارد بملك فرنسا عائدا إلى بلاده. إنجازات حضارية يظن الكثير من الناس أن صلاح الدين شغلته أعمال الجهاد عن الانصراف إلى شئون الدولة الأخرى الحضارية، ولعل صورة الفارس المحارب صلاح الدين قد طغت على الجوانب الأخرى من شخصيته، فأخفت بعضا من ملامحها المشرقة وقسماتها المضيئة. وأول عمل يلقانا من أعمال صلاح الدين هو دعمه للمذهب السني؛ بإنشائه مدرستين لتدريس فقه أهل السنة، هما المدرسة الناصرية لتدريس الفقه الشافعي، والمدرسة القمحية لتدريس الفقه المالكي، وسُميت بذلك؛ لأنها كانت توزع على أساتذتها ومعيديها وتلاميذها قمحًا، كانت تغله أرض موقوفة عليها، وفي الوقت نفسه قصر تولي مناصب القضاء على أصحاب المذهب الشافعي، فكان ذلك سببا في انتشار المذهب في مصر وما يتبعها من أقاليم. وبرز في عصر صلاح الدين عدد من الشخصيات العلمية والفكرية، مثل "القاضي الفاضل" المتوفَّى سنة (596هـ = 1200م) رئيس ديوان الإنشاء وصاحب القلم البديع في الكتابة، وكان صلاح الدين يستشيره في أدق أمور الحرب والسياسة، و"العماد الأصفهاني" المتوفَّى سنة (597هـ = 1201م)، وصاحب المؤلفات المعروفة في الأدب والتاريخ، ونجح مع القاضي الفاضل في ازدهار ديوان الإنشاء في مصر، وهذا الديوان يشبه في وظيفته وزارة الخارجية. وعُني صلاح الدين ببناء الأسوار والاستحكامات والقلاع، ومن أشهر هذه الآثار "قلعة الجبل"؛ لتكون مقرًّا لحكومته، ومعقلا لجيشه، وحصنا منيعا يمكِّنه من الدفاع عن القاهرة، غير أن صلاح الدين لم يتمكن من إتمام تشييدها في عهده، وظلت القلعة مقرا لدواوين الحكم في مصر حتى وقت قريب، وأحاط صلاح الدين الفسطاط والعسكر وأطلال القلاع والقاهرة، أحاطها جميعا بسور طوله 15كم، وعرضه ثلاثة أمتار، وتتخلله الأبراج، ولا تزال بقاياه قائمة حتى اليوم في جهات متفرقة. واستقرت النظم الإدارية؛ فكان السلطان يرأس الحكومة المركزية في العاصمة، يليه نائب السلطان؛ وهو المنصب الذي استحدثه صلاح الدين لينوب عنه في أثناء غيابه يليه الوزير، وكان يقوم بتنفيذ سياسات الدولة، ويلي ذلك الدواوين، مثل: "ديوان النظر" الذي يشرف على الشئون المالية، و"ديوان الإنشاء" ويختص بالمراسلات والأعمال الكتابية، و"ديوان الجيش" ويختص بالإشراف على شئون الجيش، و"ديوان الأسطول" الذي عُني به صلاح الدين عناية فائقة لمواجهة الصليبيين الذين كانوا يستخدمون البحر في هجومهم على البلاد الإسلامية، وأفرد له ميزانية خاصة، وعهد به إلى أخيه العادل، وقد اشترك الأسطول في عدة معارك بحرية في سواحل مصر والشام، منها صدِّه لحملة أرناط على مكة والمدينة. وعُني صلاح الدين بالمؤسسات الاجتماعية التي تعين الناس وتخفف عنهم بعض عناء الحياة؛ فألغى الضرائب التي كانت تفرض على الحجاج الذين يمرون بمصر، وتعهد بالإنفاق على الفقراء والغرباء الذين يلجئون إلى المساجد، وجعل من مسجد "أحمد بن طولون" مأوى للغرباء من المغاربة. واشتهر صلاح الدين بسماحته وجنوحه إلى السلم؛ حتى صار مضرب الأمثال في ذلك، فقد عامل الصليبيين بعد استسلام المدينة المقدسة معاملة طيبة، وأبدى تسامحا ظاهرا في تحصيل الفداء من أهلها، وكان دخول المسلمين بيت المقدس دون إراقة دماء وارتكاب آثام صفحة مشرقة ناصعة، تُناقض تماما ما ارتكبه الفرنج الصليبيون عند استيلائهم على المدينة سنة (492هـ = 1099م) من الفتك بأهلها المسلمين العُزَّل وقتل الألوف منهم. وفي أثناء مفاوضات صلح الرملة التي جرت بين المسلمين والصليبيين مرض السلطان صلاح الدين، ولزم فراشه، ثم لقي ربَّه في (27 من صفر 589هـ = 4 من مارس 1193م)، وكان يوم وفاته يوما لم يُصب الإسلام والمسلمون بمثله منذ فقد الخلفاء الراشدين. ولما تُوفِّي لم يخلف مالا ولا عقارا، ولم يوجد في خزائنه شيء من الذهب والفضة سوى دينار واحد، وسبعة وأربعين درهما، فكان ذلك دليلا واضحا على زهده وعفة نفسه وطهارة يده
|
#17
|
|||
|
|||
ريتشارد قلب الأسد.. والحلم الضائع
ريتشارد قلب الأسد ثار الغرب الأوربي بعدما جاءته الأنباء بفاجعة معركة حطين في (24 من ربيع الآخر 583هـ= 4 من يوليو 1187م)، ولم تكن هزيمة حلَّت بالصليبيين في الشام مثل غيرها من الهزائم التي تُتدارك، ولكنها كانت أكبر كارثة أحاطت بهم منذ أن وطأت أقدامهم الشام، فقد فقدوا زهرة فرسانهم وشبابهم، وأصبح وجودهم رهنا بقبضة صلاح الدين الأيوبي صاحب الانتصار العظيم. وجاء تحرك الغرب الأوربي سريعًا محاولا إنقاذ ما يمكن إنقاذه من قوة الصليبيين في الشام، واسترداد ما فُقد منهم من بيت المقدس وبعض المدن الساحلية، وأسفر هذا التحرك عن تجهيز حملة كبيرة تداعت لها أوربا، واشترك في إعدادها ثلاثة من كبار ملوك أوربا هم: فردريك بربروسا إمبراطور ألمانيا، وفيليب أوغسطس ملك فرنسا، وريتشارد قلب الأسد ملك إنجلترا، وهو موضوع حديث اليوم. المولد والنشأة ولد ريتشارد في أكسفورد بإنجلترا في (غرة شعبان 552 هـ = 8 من سبتمبر 1157م)، ونشأ نشأة عسكرية؛ فشبّ ميالاً للحرب والقتال، وعندما بلغ الحادية عشرة ورث عن والدته دوقية "أكيتين" بفرنسا، ثم تولى سنة (568هـ = 1172م) دوقية "بواتييه"، وهي إحدى المقاطعات الفرنسية التي كانت تابعة آنذاك لسلطة ملك إنجلترا. ويبدو أنه كان معارضًا لسياسة والده الملك هنري الثاني طامعًا خلافته؛ فاشترك مع إخوته في مؤامرة ضد والدهم سنة (569هـ= 1173م)، ولكنها فشلت، ثم ما لبث أن عفا عنه والده، وانصرف إلى دعم سلطانه على المقاطعات التابعة له، وشرع في الضغط على أبيه ليعترف به وريثا شرعيا يخلفه على عرش إنجلترا والمقاطعات الفرنسية التابعة لها. ولم يكتف ريتشارد بذلك بل تحالف مع فيليب أوغسطس لتحقيق غرضه في الوصول إلى عرش إنجلترا، وأعلن تمرده على والده وثار ضده سنة (584 هـ = 1188م)، ولم يكن أبوه في سن تسمح له بمقابلة تمرد ابنه بضربات قوية؛ فقد كان كبيرا السن عليل البدن؛ الأمر الذي عجل بوفاته سنة (585هـ= 1189م)، وخلفه ريتشارد ملكا على عرش إنجلترا في (20 من جمادى الأولى 585 هـ = 6 من يوليو 1189م) باسم ريتشارد الأول. الإعداد للحملة الصليبية وفي أثناء فترة صراع ريتشارد للوصول إلى العرش كان المسلمون قد استردوا بيت المقدس، بعد أن ظل أسيرًا في أيدي الصليبيين نحو 90 عامًا، وبدأت ترتفع صيحات عاتية في أوربا تنادي باستعادة بيت المقدس، واستعادة الروح التي ضاعت تحت سنابك خيل صلاح الدين، واسترداد الهيبة المفقودة، وصادفت تلك الدعوات هوى في نفس ريتشارد، وكان بطبيعته يميل إلى الحرب ويمني نفسه بالنصر المنشود والعودة إلى مملكته مرفوع الهامة تكلل أكاليل النصر رأسه، ويلهج الناس بذكره، وعلى الفور بدأ في إعداد حملته التي كلفته أموالا طائلة، وفي الوقت نفسه كان فيليب أوغسطس ملك فرنسا وفردريك بربروسا يجهزان لحملتهما لنفس الغرض. الطريق إلى عكا أبحر ريتشارد بأسطوله قاصدا عكا فوصلها في (13 من جمادى الأولى 587 هـ = 8 من يونيو 1191م)، وقوَّى من عزيمتهم وصول قوات فيليب أوغسطس حيث جمع شمل الصليبيين تحت زعامته، وبدأ في مهاجمة عكا وقذفها قذفا متصلا، ثم جاءت قوات ريتشارد فازداد الصليبيون قوة إلى قوتهم، وأظهرت الحامية الإسلامية ضروبا في الشجاعة وألوانا من الصبر والثبات في مقاومة الحصار ودفع هجمات الصليبيين من البر والبحر، ولكن ذلك لم يعد كافيا بعد أن انقطعت الإمدادات والاتصالات بينها وبين صلاح الدين الذي لم تنجح قواته في اختراق الحصار البري الصليبي. ولم يعد هناك مفر من المفاوضات لتسليم المدينة، واتفق الطرفان على أن يسمح الصليبيون لحامية عكا بالخروج سالمين في مقابل فدية قدرها 200 ألف دينار، وأن يحرر المسلمون 2500 من الأسرى. وبعد دخول الصليبيين عكا في (16 من جمادى الآخرة 587 هـ = 11 من يوليو 1191م) تجاهل ريتشارد قلب الأسد بنود الاتفاق، ونقض ما اتفق عليه؛ فقبض على المسلمين بالمدينة وكانوا نحو 3 آلاف مسلم، وقام بقتلهم في وحشية وهمجية في (27 من رجب 587 هـ 20 من أغسطس 1191م) طعنًا وضربًا بالسيف، ولم يقابل صلاح الدين الأيوبي هذا الفعلة الشنعاء بمثلها، ورفض أن يقتل من كان في يده من أسرى الصليبيين. الاستيلاء على مدن الساحل بدأ ريتشارد بعد سقوط عكا يعد للاستيلاء على شاطئ فلسطين من عكا إلى عسقلان، ويمني نفسه باسترداد بيت المقدس، وخاض من أجل ذلك سلسلة من الحروب مع المسلمين؛ فاستولى الصليبيون على حيفا التي أخلتها حاميتها الإسلامية، ثم على قيسارية التي خربها المسلمون حتى لا ينتفع بها الصليبيون، وفي أثناء ذلك فتح ريتشارد باب المفاوضات مع صلاح الدين، ولكنها فشلت بسبب تمسك ريتشارد بأن تعود مملكة بيت المقدس الصليبية إلى ما كانت عليه قبل حطين. ثم نشبت بين الطرفين معركة أرسوف في (15 من شعبان 587 هـ = 7 من سبتمبر 1191م)، وكاد المسلمون يحققون نصرا عظيما كما حدث في حطين، ولكن ريتشارد ثبت في المعركة، وأعاد تنظيم قواته، ونجح في تحويل دفة المعركة لصالحه، وحقق نصرا كبيرا بعث الثقة في نفوس الصليبيين بعد سلسلة الهزائم المدوية التي لحقت بهم. بعد هذا النصر الذي حققه ريتشارد اتجه إلى بيت المقدس، وفي طريقه إليه استولى على عدد من المدن العربية مثل يافا واللد ويازور والرملة والنطرون، وأصبح على مقربة من بيت المقدس، بعد أن تحمل الصليبيون العناء في سبيل الوصول إليه. صلح الرملة باءت محاولات ريتشارد للاستيلاء على بيت المقدس بالفشل أمام صلابة المسلمين في الدفاع عنها، وتقوية صلاح الدين الأيوبي لاستحكاماتها، ثم لم يلبث أن دب الخلاف واشتعل النزاع بين الصليبيين، وانتهى بهم الحال إلى طلب الصلح والمفاوضة، وساعد في المسارعة إلى ذلك ورود أنباء إلى ريتشارد باستيلاء أخيه يوحنا على الحكم؛ فعزم على إجراء الصلح قبل العودة إلى بلاده. وبعد مفاوضات شاقة عقد الصلح بين ريتشارد وصلاح الدين في (22 من شعبان 588هـ = 2 من سبتمبر 1192م)، وهو الصلح المعروف بصلح الرملة، واتفق الطرفان على أن تكون مدة الصلح ثلاث سنوات وثلاثة أشهر، وأن تكون المنطقة الساحلية من صور إلى يافا للصليبيين، أما عسقلان فتكون للمسلمين، في حين تكون الرملة واللد مناصفة بين المسلمين والصليبيين، ونص الاتفاق أن يعطى للمسيحيين حرية الحج إلى بيت المقدس دون مطالبتهم بأي ضريبة مقابل ذلك. العودة إلى بلاده قضى ريتشارد قلب الأسد في حروبه ضد المسلمين 16 شهرًا، ونجح خلالها في تقوية الصليبيين، واستردادهم لبعض المدن التي خسروها في حروبهم ضد صلاح الدين، ثم غادر عكا إلى بلاده في (شوال 588 هـ = أكتوبر 1192م)، غير أن سفينته تعرضت لرياح عاتية فرست في ميناء البندقية، واستكمل طريق العودة برًا فاعتقله "ليوبولد" دوق النمسا بالقرب من فيينا، وسلّمه إلى هنري السادس إمبراطور الدولة الرومانية فسجنه، ولم يطلق سراحه إلا بعد أن دفع فدية كبيرة، وعاد إلى إنجلترا حيث تُوِّج ملكا عليها للمرة الثانية في (23 من ربيع الآخر 590 هـ 17 من إبريل 1194م)، ثم رجع إلى مقاطعة النورماندى واستقر بها، وخاض عددًا من المعارك لإنقاذ ممتلكات التاج الإنجليزي في فرنسا، ثم لم يلبث أن انتهت حياته بسبب سهم طائش أثناء حصاره لأحد حصون النبلاء في (جمادى الآخرة 595هـ = إبريل 1199م).
|
#18
|
|||
|
|||
جوهر الصقلي.. للشدائد فقط الجامع الأزهر منذ أن أقام الفاطميون دولتهم في المغرب ورسخت أقدامهم فيها وهم يتطلعون إلى فتح مصر، وتكررت محاولاتهم لتحقيق هذا الحلم منذ سنة (301هـ= 913م) غير أنها لم تلق نجاحًا، وكلما أخفقت محاولة أردفوها بأخرى دون ملل أو يأس، حتى إذا تولى المعز لدين الله الفاطمي أمر الدولة عزم على فتح مصر أقدم على عمل ما يعينه على ذلك، فأصلح الطرق المؤدية إليها وحفر الآبار، وأقام الاستراحات لجنده على مسافات منتظمة، ثم اختار لأداء هذه المهمة واحدًا من أكفأ قادته وأمهرهم، وهو جوهر الصقلي، الذي نجح فيما فشل فيه غيره، وصنع لنفسه مجدًا لا يبليه الدهر؛ ففتح مصر، وأقام عاصمة هي القاهرة، وأنشأ مسجدًا هو الجامع الأزهر. وهذا القائد النابه أصله من صقلية، ولد بها سنة (312هـ= 924م) ولا يذكر التاريخ شيئًا عن حياته الأولى، ثم انتقل إلى القيروان والتحق بخدمة الخليفة المعز لدين الفاطمي، فلما توسم فيه الذكاء والفطنة عني بتثقيفه وتعليمه وتدريبه في مجالات مختلفة، فلم يخيب ظنه، وأظهر نبوغًا فيما أسند إليه من أعمال، فكافأه الخليفة الذي يعرف قدر الرجال بما يستحق، وأسند إليه القيام بالأعمال الكبيرة حتى صار كاتبه في سنة (341هـ=952م)، ثم ولاه قيادة حملته لفتح بلاد المغرب سنة (347هـ= 958م)؛ فنجح في مهمته واستولى على مدينة "فاس" سنة (349هـ= 960م) وبلغ ساحل المحيط الأطلسي، ولم يكتف بالفتح والغزو بل استطاع أن ينشر الأمن والسلام فيما فتح وأن يوطد أركان الدولة في هذه النواحي. غزو مصر ولما عزم المعز لدين الله على الاستيلاء على مصر، وكان قد استعد لذلك لم يجد خيرًا من قائده المحنك جوهر الصقلي ليقوم بهذه المهمة، وجعل تحت قيادته مائة ألف أو ما يزيد من الجنود والفرسان، بالإضافة إلى السفن البحرية. وخرج المعز لدين الله الفاطمي في وداع جيشه الكبير في (14 من ربيع الأول 358هـ= 4 من فبراير 969م) فبلغ برقة بليبيا. استأنف الجيش المسير حتى وصل إلى الإسكندرية؛ فدخلها دون مقاومة، ومنع جوهر الصقلي جنوده من التعرض لأهلها، وأمرهم بالتزام الهدوء والنظام، مستهدفًا من ذلك التقرب من المصريين والتودد إليهم، وكانت مصر في هذه الفترة تمر بمرحلة عصيبة؛ فالأزمة الاقتصادية تعصف بها، والخلافة العباسية التي تتبعها عاجزة عن حمايتها بعد أن أصبحت بغداد أسيرة لنفوذ البويهيين الشيعة، ودعاة الفاطميين يبثون دعوتهم في مصر ويبشرون أتباعهم بقدوم سادتهم، وجاءت وفاة كافور الإخشيد سنة (357هـ= 968م) -وكانت بيده مقاليد مصر- لتزيل آخر عقبة في طريق الفاطميين إلى غايتهم المأمولة. الطريق إلى الفسطاط ولما علم أهل الفسطاط بقدوم الفاطميين اختاروا واحدًا من كبار العلويين بمصر هو "أبو جعفر مسلم" على رأس وفد، ليفاوض القائد الفاتح ويطلب الصلح والأمان، فالتقى الوفد به عند قرية "أتروحة" على مقربة من الإسكندرية في (18 من رجب 358هـ= 18 من يونيو 969م) فأجاب جوهر طلب الوفد، وكتب عهدًا تعهد فيه بأن يطلق للمصريين حرية العقيدة على اختلاف أديانهم ومذاهبهم، وأن ينشر العدل والطمأنينة في النفوس، وأن يقوم بما تحتاجه البلاد من ضروب الإصلاح. غير أن أنصار الإخشيديين رفضوا عهد الأمان وعزموا على القتال، إلا أنهم لم يثبتوا في المعركة التي دارت بينهم وبين جوهر في "الجيزة" في (16 من شعبان 358هـ= 5 من يوليو 969م)، واضطر أهالي الفسطاط إلى تجديد طلب الأمان من جوهر بعد هزيمة الإخشيديين، فقبل جوهر الصقلي التماسهم، وأذاع على الجند بيانًا حرّم فيه أن يقوموا بأعمال العنف والنهب؛ فهدأت النفوس واطمأن الناس وعاد الأمن إلى نصابه، وفي اليوم التالي دخل جوهر عاصمة البلاد إيذانًا ببدء مرحلة جديدة في تاريخ مصر والشام. بناء القاهرة والجامع الأزهر تخطيط لمدينة الفسطاط القديمة وما كاد يستقر الأمر لجوهر الصقلي حتى بدأ في إنشاء عاصمة جديدة لدولته الفتية، ووضع أساسًا لها في الشمال الشرقي للفسطاط، فبنى سورًا خارجيًا من الطوب اللبن يحيط بمساحة تبلع 340 فدانًا، جعل سبعين منها للقصر الكبير مقر الحكم والسلطان، وخمسة وثلاثين فدانًا للبستان، ومثلها للميادين، وتوزعت المساحة المتبقية -وقدرها مائتا فدان- على القبائل الشيعية والفرقة العسكرية، حيث اختارت كل منها مكانًا خاصًا بها عرفت به مثل زويلة، وكان ذلك نواة لعاصمة الدولة الفاطمية في المشرق، التي سميت في بادئ الأمر بالمنصورية، ثم عرفت بعد ذلك بالقاهرة.
ثم شرع الصقلي في نشر المذهب الشيعي في مصر، فألغى الخطبة للخليفة العباسي، وألغى لباس السواد شعار العباسيين، وزاد في الأذان عبارة "حي على خير العمل"، وأمر بالجهر بالبسملة في قراءة القرآن في الصلاة، وزيادة القنوت في الركعة الثانية من صلاة الجمعة، وأن يقال في خطبة الجمعة: "اللهم صل على محمد المصطفى، وعلى علي المرتضى، وفاطمة البتول، وعلى الحسن والحسين سبطي الرسول، الذين أذهبت عنهم الرجس وطهرتهم تطهيرا"، وكان هذا إيذانا بترك المذهب السني في مصر. وتأكيدًا لهذا قام جوهر بإنشاء الجامع الأزهر الذي بدأ العمل فيه في (24 من جمادى الأولى 359هـ= 4 من إبريل 970م). سياسة التمكين وسعى جوهر لدعم الفاطميين في مصر وتثبيت نفوذهم، مستعينًا بسياسة هادئة، فعمل على تمكينهم من الجهاز الإداري والسيطرة على الوظائف الكبيرة في الدولة، فلم يدع عملا إلا جعل فيه مغربيًا، وفي الوقت نفسه بدأ في اتخاذ عدة إصلاحات لمعالجة الأزمة الاقتصادية التي كانت تمر بها البلاد، وتخفيف حدة المجاعة التي أصابتها بسبب نقص الحبوب، وأمده المعز لدين الله بالسفن المحملة بالغلال، ووضع نظامًا دقيقًا لجمع الضرائب يقوم على العدل والإنصاف، وأثمرت هذه السياسة عن استقرار واضح للفاطميين في البلاد. ثم تطلع جوهر إلى تأمين حدود مصر الشمالية بعد أن اطمأن إلى جبهته الداخلية المتماسكة، فنجح في ضم الشام بعد جهود مضنية، وكانت السيطرة على الشام تمثل هدفًا إستراتيجيًا لكل نظام يتولى الحكم في مصر، كما نجح في رد غارات القرامطة الذين حاولوا الاستيلاء على القاهرة، وألحق بهم هزيمة ساحقة سنة (361هـ= 971م) في منطقة عين شمس. الخليفة الفاطمي في القاهرة ولما رأى جوهر الصقلي أن الوقت قد حان لحضور المعز لدين الله لتولي الأمور في مصر كتب إليه يدعوه إلى الحضور؛ فخرج المعز من "المنصورية" عاصمته في بلاد المغرب، وكانت تتصل بالقيروان، فوصل القاهرة في (7 من رمضان 362هـ= 11 من يونيو 972م)، وأقام في القصر الذي بناه جوهر، وخرج في اليوم الثاني لاستقبال مهنئيه. وعقب وصول الخليفة الفاطمي عزل جوهر الصقلي عن دواوين مصر، واختفى جوهر عن الحياة، فلم يعهد إليه الخليفة بمهام جديدة، حتى إذا ظهر خطر القرامطة في بلاد الشام وباتوا خطرًا محدقًا بالدولة استعان المعز لدين الله بقائده النابه جوهر في سنة (364هـ= 974م) لدفع هذا الخطر، ثم عاد إلى الاختفاء ثانية. الأيام الأخيرة وظل جوهر الصقلي بعيدًا عن تولي المناصب حتى وفاة المعز لدين الله وتولي ابنه العزيز بالله الفاطمي، إلى أن عاد الخطر القرمطي في الظهور من جديد في الشام، ولم يجد الخليفة العزيز بدًا من الاستعانة به مرة أخرى؛ اعترافًا بكفاءته وقدرته، فتولى قيادة القوات الفاطمية التي زحفت إلى بلاد الشام، حتى إذا تحقق النصر وزال خطر القرامطة عاد من جديد إلى الاختفاء، ولزم بيته حتى توفي في (20 من ذي القعدة 381هـ= 28 من يناير 992م) بعد أن حكم مصر أربع سنوات نيابة عن الخليفة الفاطمي في مصر، وهي تعد من أهم فترات التاريخ الفاطمي في مصر؛ حيث نجح بسياسته الهادئة وحسن إدارته من إحداث التغييرات المذهبية والإدارية التي هيأت الاستقرار للدولة الجديدة، وعبّرت عن مظاهر سيادتها.
|
#19
|
|||
|
|||
سيف الدولة.. لمحات تاريخية وثقافية
حدود الدولة الحمدانية ترجع الجذور الأولى للحمدانيين إلى تغلب بن وائل بن قاسط رأس قبيلة تَغْلِب الشهيرة، والذي ينتهي نسبه إلى ربيعة بن نزار. وكانت تغلب من أعظم قبائل ربيعة شأنا في بلاد العرب قبل الإسلام لعهدها القديم، فلما أشرق نور الإسلام على الجزيرة العربية، وسارعت قبائل العرب إلى الدخول في الإسلام، كانت قبيلة تغلب من القبائل التي ناصبت الإسلام والمسلمين العداء، بل إنها ناصرت سجاح حينما ادعت النبوة، وساندتها وأتباعها في حربهم المسلمين، وحتى عندما انتهى أمرها وتبددت دعوتها بعدما تصدى أبو بكر الصديق للمرتدين، وقضى على أدعياء النبوة، فإن تغلب لم تستطع أن تُخفي عداءها للمسلمين، فوقفت في صف الروم في حربها ضد المسلمين سنة 12هـ = 637م. بنو تغلب عبر التاريخ ومع اتساع الدولة الإسلامية وانتشار الإسلام في الجزيرة العربية وما حولها، لم يتغير موقف بني تغلب كثيرا؛ فلم يدخل منها في الإسلام إلا قليل، وبقي معظمهم على نصرانيتهم، ومع ذلك فإن الخليفة الثاني الفاروق "عمر بن الخطاب" لم يفرض عليهم الجزية التي كانت تؤخذ من أهل الكتاب، وإنما اكتفى بأن أخذ منهم الصدقة التي كانت تؤخذ من المسلمين، ولكنه ضاعفها عليهم. وفي عصر الدولة الأموية حظي أبناء تغلب من الشعراء بمكانة عظيمة، فظهر الأخطل والقطافي -وهما شاعران نصرانيان-، وكان لهما حظ وفير من المجد والشهرة في بلاد الأمويين. فلما جاءت الدولة العباسية، كان لبني تغلب مكانة مرموقة في كنف الأسرة العباسية، وتمكنوا من إنشاء دولتهم المستقلة التي كان لها دورها الكبير في حركة التاريخ، وساهمت بشكل فعال في إرساء نهضة حضارية وفكرية عظيمة. ظهور وتغلغل ولكن البداية الحقيقية لظهور الحمدانيين على مسرح الأحداث ترجع إلى مؤسس هذه الأسرة "حمدان بن حمدون التغلبي" صاحب قلعة "ماردين" القريبة من "الموصل"، وذلك عندما خاض حمدون على رأس جنوده عدة معارك قوية ضد الروم، إلا أن بداية علاقتهم الفعلية بالعباسيين لم تتحدد إلا بعد عام (272هـ=885م)، عندما تحالف مع "هارون الشاري" الخارجي، واستطاعا غزو الموصل والاستيلاء عليها، وقد أدى ذلك إلى ثورة الخليفة العباسي المعتضد وغضبه عليه، فقبض عليه وحبسه. ومع استفحال أمر "الشاري" ظلّ الخليفة يفكر في وسيلة للقضاء عليه، ووجدها "الحسين بن حمدان" فرصة لإظهار قدراته واكتساب ثقة الخليفة وإطلاق سراح أبيه من الحبس، واستطاع الحسين هزيمة الشاري بعد معركة قوية، وأسره وقدّمه إلى الخليفة يرسف في أغلاله؛ فسر الخليفة بذلك، وأطلق سراح أبيه، وبدأ مرحلة جديدة من التعاون مع بني حمدان؛ فاستعان بهم في محاربة القرامطة والتصدي لخطرهم، كما وجههم إلى العديد من الفتوحات في فارس ومصر والمغرب. وهكذا استطاع الحمدانيون الوصول إلى أخطر المراكز، وتقلدوا أعلى المناصب، وشاركوا مشاركة فعلية في الحياة السياسية في بغداد لفترة غير قصيرة، واستطاعت الأسرة الحمدانية أن توثق صلاتها بالعباسيين، وأخذ نفوذهم يزداد، وتوغلوا في جميع مرافق الدولة، بالرغم من الدسائس والمؤامرات المستمرة التي ظلت تحاك ضدهم من بعض العناصر غير العربية في بلاط العباسيين، وبرز عدد كبير من أبناء هذه الأسرة كان في مقدمتهم الأمير "سيف الدولة الحمداني". سيف الدولة.. الأمير الفارس وُلد الأمير "سيف الدولة علي بن أبي الهيجاء عبد الله بن حمدون التغلبي" في (303هـ = 915م) في مدينة "ميافارقين" -أشهر مدن ديار بكر- على إثر تولي أبيه إمارة الموصل. وقد عُني أبوه بتعليمه وتنشئته على الفروسية منذ نعومة أظفاره، وأظهر سيف الدولة استعدادا كبيرا ومهارة فائقة في القنص والرمي وركوب الخيل منذ صغره. ولم يكد يبلغ العشرين من عمره حتى صار فارسا لا يُشَقّ له غبار، وخاض العديد من المعارك الطاحنة ضد أعداء الدولة والمتمردين عليها؛ سواء في الداخل أو في الخارج. واستطاع الأمير الشاب أن يحقق انتصارا عظيما على البريدين الذين اقتحموا بغداد عام (330هـ = 942م) ودفعوا الخليفة العباسي "المتقي لله" إلى الخروج منها، واللجوء إلى الموصل للاستنجاد بالحمدانيين، فلما حقّق الأمير الشاب "علي بن أبي الهيجاء" النصر على البريدين بعد أن تعقبهم إلى المدائن، أنعم عليه الخليفة بلقب "سيف الدولة"، وأمر أن تُضرب باسمه الدنانير والدراهم. الانتصار على البيزنطيين وبدأ نجم سيف الدولة يعلو ويسطع منذ ذلك الحين؛ فحقق المزيد من الانتصارات على الروم والبيزنطيين، واستطاع أن يصدّ هجماتهم، كما تمكن من المحافظة على حدود الدولة الإسلامية ضد غاراتهم، واستطاع أن يتوغل داخل حدود الدولة البيزنطية. وقد عُني سيف الدولة بتسليح جيشه في مواجهة استعدادات الجيش البيزنطي العسكرية القوية وتنظيمه الجيد، وتنوع تسليحه، فاتجه إلى توفير المال اللازم لتجهيز الجيش وتسليح الجنود، واهتم بتدريب رجاله وتربية جنوده تربية عسكرية صارمة. واتخذ سيف الدولة مدينة "حلب" مركزا ليبدأ منها مرحلة جديدة من حياته؛ حيث أعلن إمارته على مناطق حلب والجزيرة الفراتية وإقليم الثغور والعواصم، وبدأ يدخل في مرحلة جديدة من الصراع مع الروم البيزنطيين والحروب الطاحنة معهم، واستطاع خلالها أن يحقق عدة انتصارات عليهم، ووجه إليهم العديد من الضربات المتلاحقة الموجعة، وألحق بهم سلسلة من الهزائم المتتالية. الصراع مع الإخشيديين وقد أثارت انتصارات سيف الدولة على الروم البيزنطيين حفيظة والإخشيديين الذين وجدوا عليه تلك البطولات والأمجاد، وخشوا من تعاظم نفوذه وقوة شوكته؛ فتحركوا لقتاله، ولكنهم ما لبثوا أن آثروا الصلح معه بعد أن لمسوا قوته وبأسه. وبدأ الروم البيزنطيون يعيدون ترتيب صفوفهم وتنظيم قوتهم، وراحوا يهاجمون الثغور العربية في سنة (336هـ = 947م)، ولكن الأمير سيف الدولة الحمداني تصدّى لهم وتعقبهم، وجدد البيزنطيون هجماتهم مرة أخرى بعد عام، فتعقبهم سيف الدولة، وقتل منهم عددا كبيرا. ولكن هجمات الروم البيزنطيين لم تتوقف؛ مما دفع سيف الدولة إلى تجهيز حملة كبيرة قوامها ثلاثون ألف فارس، وانضم إليهم جيش طرطوس في أربعة آلاف مقاتل، واستطاع اقتحام حدود الدولة البيزنطية، والتوغل داخل أراضيها، وفتح عددا من حصونها، وألحق بالبيزنطيين هزيمة منكرة، وأسر عددا من قادتهم؛ مما دفع البيزنطيين إلى طلب الهدنة منه، بعد أن ضاقوا ذرعا بالحروب الطاحنة التي كبدتهم العديد من الخسائر وأصابتهم بالوهن. نهضة شاملة وبالرغم من الطابع العسكري والحربي لدولة الحمدانيين بصفة عامة، وإمارة سيف الدولة على نحو خاص، فإن ذلك لم يصرف الأمير "سيف الدولة" عن الاهتمام بالجوانب الحضارية والعمرانية. فقد شيّد سيف الدولة قصره الشهير بـ"قصر الحلبة" على سفح جبل الجوشن، وتميز بروعة بنائه وفخامته وجمال نقوشه وزخارفه، وكان آية من آيات الفن المعماري البديع، كما شيّد العديد من المساجد، واهتم ببناء الحصون المنيعة والقلاع القوية. وشهدت الحياة الاقتصادية ازدهارا ملحوظا في العديد من المجالات؛ فمن ناحية الزراعة كثرت المزروعات، وتنوعت المحاصيل من الحبوب والفاكهة والثمار والأزهار، فظهر البُرّ والشعير والذرة والأرز والبسلة وغيرها. كما ظهرت أنواع عديدة من الفاكهة كالتين والعنب والرمان والبرقوق والمشمش والخوخ والتوت والتفاح والجوز والبندق والحمضيات. ومن الرياحين والأزهار والورد والآس والنرجس والبنفسج والياسمين. كما جادت زراعة الأقطان والزيتون والنخيل. وظهرت صناعات عديدة على تلك المزروعات، مثل: الزيتون، والزبيب، كما ظهرت صناعات أخرى كالحديد والرخام والصابون والكبريت والزجاج والسيوف والميناء. ونشطت التجارة، وظهر العديد من المراكز التجارية المهمة في حلب والموصل والرقة وحران وغيرها. وشهدت الحياة الفكرية والثقافية نهضة كبيرة ونشاطا ملحوظا في ظل الحمدانيين؛ فظهر الكثير من العلماء والأطباء والفقهاء والفلاسفة والأدباء والشعراء. وكان سيف الدولة يهتم كثيرا بالجوانب العلمية والحضارية في دولته، وظهر في عصره عدد من الأطباء المشهورين، مثل "عيسى الرَّقي" المعروف بالتفليسي، و"أبو الحسين بن كشكرايا"، كما ظهر "أبو بكر محمد بن زكريا الرازي" الذي كان أعظم أطباء الإسلام وأكثرهم شهرة وإنتاجا. ومن أبرز الفلكيين والرياضيين الذين ظهروا في عصر الحمدانيين في بلاد الشام "أبو القاسم الرَّقي"، و"المجتبى الإنطاكي" و"ديونيسيوس" و"قيس الماروني"، كما عُني الحمدانيون بالعلوم العقلية كالفلسفة والمنطق، فلَمع نجمع عدد كبير من الفلاسفة والمفكرين الإسلاميين في بلاط الحمدانيين، مثل: "الفارابي"، و"ابن سينا". أما في مجال العلوم العربية؛ فقد ظهر عدد من علماء اللغة المعروفين، مثل "ابن خالويه"، و"أبو الفتح بن جني"، و"أبو على الحسين بن أحمد الفارسي"، و"عبد الواحد بن علي الحلبي" المعروف بأبي الطيب اللغوي. كما لمع عدد من الشعراء المعروفين، مثل "المتنبي"، و"أبو فراس الحمداني"، و"الخالديان: أبو بكر، وأبو عثمان"، و"السرى الرفاء" و"الصنوبري"، و"الوأواء الدمشقي"، و"السلامي" و"النامي". وظهر كذلك عدد كبير من الأدباء المشهورين، وفي طليعتهم "أبو الفرج الأصفهاني" صاحب كتاب "الأغاني" الذي أهداه إلى سيف الدولة؛ فكافأه بألف دينار، و"ابن نباتة"، وظهر أيضا بعض الجغرافيين، مثل: "ابن حوقل الموصلي" صاحب كتاب "المسالك والممالك"… ولم يلبث سيف الدولة أن عاجله المرض، ثم تُوفي في (25 من صفر 356هـ = 10 من فبراير 966م)، وقيل في رمضان، وهو في الثالثة والخمسين من عمره. وقد ظلت آثار تلك النهضة الثقافية والحضارية ذات أثر كبير في الفكر العربي والثقافة الإسلامية على مدى قرون عديدة وأجيال متعاقبة.
|
#20
|
|||
|
|||
هارون الرشيد.. والعصر الذهبي للدولة العباسية
لم يحظَ خليفة بعد الخلفاء الراشدين بالشهرة الواسعة وذيوع الذكر، مثلما حظي الخليفة العباسي هارون الرشيد، غير أن تلك الشهرة امتزج في نسجها الحقيقة مع الخيال، واختلطت الوقائع مع الأساطير، حتى كادت تختفي صورة الرشيد، وتضيع قسماتها وملامحها، وتظهر صورة أخرى له أقرب إلى اللهو واللعب والعبث والمجون، وأصبح من الواجب نفض الروايات الموضوعة، والأخبار المدسوسة حتى نستبين شخصية الرشيد كما هي في الواقع، لا كما تصورها الأوهام والأساطير. ما قبل الخلافة نشأ الرشيد في بيت ملك، وأُعد ليتولى المناصب القيادية في الخلافة، وعهد به أبوه الخليفة "المهدي بن جعفر المنصور" إلى من يقوم على أمره تهذيبًا وتعليمًا وتثقيفًا، وحسبك أن يكون من بين أساتذة الأمير الصغير "الكسائي"، والمفضل الضبي، وهما مَن هما علمًا ولغة وأدبًا، حتى إذا اشتد عوده واستقام أمره، ألقى به أبوه في ميادين الجهاد، وجعل حوله القادة الأكفاء، يتأسى بهم، ويتعلم من تجاربهم وخبراتهم، فخرج في عام (165 هـ= 781م) على رأس حملة عسكرية ضد الروم، وعاد محملاً بأكاليل النصر، فكوفئ على ذلك بأن اختاره أبوه وليًا ثانيًا للعهد بعد أخيه موسى الهادي. وكانت الفترة التي سبقت خلافته يحوطه في أثنائها عدد من الشخصيات السياسية والعسكرية، من أمثال "يحيى بن خالد البرمكي"، و"الربيع بن يونس"، و"يزيد بن مزيد الشيباني" و"الحسن بن قحطبة الطائي"، و"يزيد بن أسيد السلمي"، وهذه الكوكبة من الأعلام كانت أركان دولته حين آلت إليه الخلافة، ونهضوا معه بدولته حتى بلغت ما بلغت من التألق والازدهار. تولّيه الخلافة تمت البيعة للرشيد بالخلافة في (14 من شهر ربيع الأول 170هـ= 14 من سبتمبر 786م)، بعد وفاة أخيه موسى الهادي، وبدأ عصر زاهر كان واسطة العقد في تاريخ الدولة العباسية التي دامت أكثر من خمسة قرون، ارتقت فيه العلوم، وسمت الفنون والآداب، وعمَّ الرخاء ربوع الدولة. وكانت الدولة العباسية حين آلت خلافتها إليه مترامية الأطراف تمتد من وسط أسيا حتى المحيط الأطلنطي، مختلفة البيئات، متعددة العادات والتقاليد، معرضة لظهور الفتن والثورات، تحتاج إلى قيادة حكيمة وحازمة يفرض سلطانها الأمن والسلام، وتنهض سياستها بالبلاد، وكان الرشيد أهلاً لهذه المهمة الصعبة في وقت كانت فيه وسائل الاتصال شاقة، ومتابعة الأمور مجهدة، وساعده على إنجاز مهمته أنه أحاط نفسه بكبار القادة والرجال من ذوي القدرة والكفاءة، ويزداد إعجابك بالرشيد حين تعلم أنه أمسك بزمام هذه الدولة العظيمة وهو في نحو الخامسة والعشرين من عمره، فأخذ بيدها إلى ما أبهر الناس من مجدها وقوتها وازدهار حضارتها. استقرار الدولة ولم تكن الفترة التي قضاها الرشيد في خلافة الدولة العباسية هادئة ناعمة، وإنما كانت مليئة بجلائل الأعمال في داخل الدولة وخارجها، ولم يكن الرشيد بالمنصرف إلى اللهو واللعب المنشغل عن دولته العظيمة إلى المتع والملذات، وإنما كان "يحج سنة ويغزو كذلك سنة". واستهل الرشيد عهده بأن قلد "يحيى بن خالد البرمكي" الوزارة، وكان من أكفأ الرجال وأمهرهم، وفوّض إليه أمور دولته، فنهض بأعباء الدولة، وضاعف من ماليتها، وبلغت أموال الخراج الذروة، وكان أعلى ما عرفته الدولة الإسلامية من خراج، وقدره بعض المؤرخين بنحو 400 مليون درهم، وكان يدخل خزينة الدولة بعد أن تقضي جميع الأقاليم الإسلامية حاجتها. وكانت هذه الأموال تحصل بطريقة شرعية، لا ظلم فيها ولا اعتداء على الحقوق، بعد أن وضع القاضي "أبو يوسف" نظامًا شاملاً للخراج باعتباره واحدًا من أهم موارد الدولة، يتفق مع مبادئ الشرع الحنيف، وذلك في كتابه الخراج. وكان الرشيد حين تولى الخلافة يرغب في تخفيف بعض الأعباء المالية عن الرعية، وإقامة العدل، ورد المظالم، فوضع له "أبو يوسف" هذا الكتاب استجابة لرغبته، وكان لهذا الفائض المالي أثره في انتعاش الحياة الاقتصادية، وزيادة العمران، وازدهار العلوم، والفنون، وتمتع الناس بالرخاء والرفاهية. وأُنفقت هذه الأموال في النهوض بالدولة، وتنافس كبار رجال الدولة في إقامة المشروعات كحفر الترع والأنهار، وبناء الحياض، وتشييد المساجد، وإقامة القصور، وتعبيد الطرق، وكان لبغداد نصيب وافر من العناية والاهتمام من قبل الخليفة الرشيد وكبار رجال دولته، حتى بلغت في عهده قمة مجدها وتألقها؛ فاتسع عمرانها، وزاد عدد سكانها حتى بلغ نحو مليون نسمة، وبُنيت فيها القصور الفخمة، والأبنية الرائعة التي امتدت على جانبي دجلة، وأصبحت بغداد من اتساعها كأنها مدن متلاصقة، وصارت أكبر مركز للتجارة في الشرق، حيث كانت تأتيها البضائع من كل مكان. وغدت بغداد قبلة طلاب العلم من جميع البلاد، يرحلون إليها حيث كبار الفقهاء والمحدثين والقراء واللغويين، وكانت المساجد الجامعة تحتضن دروسهم وحلقاتهم العلمية التي كان كثير منها أشبه بالمدارس العليا، من حيث غزارة العلم، ودقة التخصص، وحرية الرأس والمناقشة، وثراء الجدل والحوار. كما جذبت المدينة الأطباء والمهندسين وسائر الصناع. وكان الرشيد وكبار رجال دولته يقفون وراء هذه النهضة، يصلون أهل العلم والدين بالصلات الواسعة، ويبذلون لهم الأموال تشجيعًا لهم، وكان الرشيد نفسه يميل إلى أهل الأدب والفقه والعلم، ويتواضع لهم حتى إنه كان يصب الماء في مجالسه على أيديهم بعد الأكل. وأنشأ الرشيد "بيت الحكمة" وزودها بأعداد كبيرة من الكتب والمؤلفات من مختلف بقاع الأرض كالهند وفارس والأناضول واليونان، وعهد إلى "يوحنا بن ماسوية" بالإشراف عليها، وكانت تضم غرفًا عديدة تمتد بينها أروقة طويلة، وخُصصت بعضها للكتب، وبعضها للمحاضرات، وبعضها الآخر للناسخين والمترجمين والمجلدين. هارون الرشيد مجاهدًا كانت شهرة هارون الرشيد قبل الخلافة تعود إلى حروبه وجهاده مع الروم، فلما ولي الخلافة استمرت الحروب بينهما، وأصبحت تقوم كل عام تقريبًا، حتى إنه اتخذ قلنسوة مكتوبًا عليها: غاز وحاج. وقام الرشيد بتنظيم الثغور المطلة على بلاد الروم على نحو لم يعرف من قبل، وعمرها بالجند وزاد في تحصيناتها، وعزل الجزيرة وقنسرين عن الثغور، وجعلها منطقة واحدة، وجعل عاصمتها أنطاكية، وأطلق عليها العواصم، لتكون الخط الثاني للثغور الملاصقة للروم، ولأهميتها كان لا يولي عليها إلا كبار القادة أو أقرب الأقربين إليه، مثل "عبد الملك بن صالح" ابن عم أبي جعفر المنصور أو ابنه "المعتصم". وعمّر الرشيد بعض مدن الثغور، وأحاط كثيرًا منها بالقلاع والحصون والأسوار والأبواب الحديدية، مثل: قلطية، وسميساط، ومرعش، وكان الروم قد هدموها وأحرقوها فأعاد الرشيد بناءها، وأقام بها حامية كبيرة، وأنشأ الرشيد مدينة جديدة عرفت باسم "الهارونية" على الثغور. وأعاد الرشيد إلى الأسطول الإسلامي نشاطه وحيويته، ليواصل ويدعم جهاده مع الروم ويسيطر على الملاحة في البحر المتوسط، وأقام دارًا لصناعة السفن، وفكّر في ربط البحر الأحمر بالبحر المتوسط، وعاد المسلمون إلى غزو سواحل بحر الشام ومصر، ففتحوا بعض الجزر واتخذوها قاعدة لهم، مثلما كان الحال من قبل، فأعادوا فتح "رودس" سنة (175هـ= 791م)، وأغاروا على أقريطش "كريت" وقبرص سنة (190هـ= 806م). واضطرت دولة الروم أمام ضربات الرشيد المتلاحقة إلى طلب الهدنة والمصالحة، فعقدت "إيريني" ملكة الروم صلحًا مع الرشيد، مقابل دفع الجزية السنوية له في سنة (181هـ= 797م)، وظلت المعاهدة سارية حتى نقضها إمبراطور الروم، الذي خلف إيريني في سنة (186هـ = 802م)، وكتب إلى هارون: "من نقفور ملك الروم إلى ملك العرب، أما بعد فإن الملكة إيريني التي كانت قبلي أقامتك مقام الأخ، فحملت إليك من أموالها، لكن ذاك ضعف النساء وحمقهن، فإذا قرأت كتابي فاردد ما حصل قبلك من أموالها، وافتد نفسك، وإلا فالحرب بيننا وبينك". فلما قرأ هارون هذه الرسالة ثارت ثائرته، وغضب غضبًا شديدًا، وكتب على ظهر رسالة الإمبراطور: "من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة، والجواب ما تراه دون أن تسمعه، والسلام". وخرج هارون بنفسه في (187 هـ= 803م)، حتى وصل "هرقلة" وهي مدينة بالقرب من القسطنطينية، واضطر نقفور إلى الصلح والموادعة، وحمل مال الجزية إلى الخليفة كما كانت تفعل "إيريني" من قبل، ولكنه نقض المعاهدة بعد عودة الرشيد، فعاد الرشيد إلى قتاله في عام (188هـ= 804م) وهزمه هزيمة منكرة، وقتل من جيشه أربعين ألفا، وجُرح نقفور نفسه، وقبل الموادعة، وفي العام التالي (189هـ=805م) حدث الفداء بين المسلمين والروم، ولم يبق مسلم في الأسر، فابتهج الناس لذلك. غير أن أهم غزوات الرشيد ضد الروم كانت في سنة ( 190 هـ= 806م)، حين قاد جيشًا ضخماً عدته 135 ألف جندي ضد نقفور الذي هاجم حدود الدولة العباسية، فاستولى المسلمون على حصون كثيرة، كانت قد فقدت من أيام الدولة الأموية، مثل "طوانة" بثغر "المصيصة"، وحاصر "هرقلة" وضربها بالمنجنيق، حتى استسلمت، وعاد نقفور إلى طلب الهدنة، وخاطبه بأمير المؤمنين، ودفع الجزية عن نفسه وقادته وسائر أهل بلده، واتفق على ألا يعمر هرقلة مرة أخرى. بلاط الرشيد محط أنظار العالم ذاع صيت الرشيد وطبق الآفاق ذكره، وأرسلت بلاد الهند والصين وأوروبا رسلها إلى بلاطه تخطب وده، وتطلب صداقته، وكانت سفارة "شارلمان" ملك الفرنجة من أشهر تلك السفارات، وجاءت لتوثيق العلاقات بين الدولتين، وذلك في سنة ( 183هـ= 779م)؛ فأحسن الرشيد استقبال الوفد، وأرسل معهم عند عودتهم هدايا قيمة، كانت تتألف من حيوانات نادرة، منها فيل عظيم، اعتبر في أوروبا من الغرائب، وأقمشة فاخرة وعطور، وشمعدانات، وساعة كبيرة من البرونز المطلي بالذهب مصنوعة في بغداد، وحينما تدق ساعة الظهيرة، يخرج منها اثنا عشر فارسًا من اثنتي عشرة نافذة تغلق من خلفهم، وقد تملك العجب شارلمان وحاشيته من رؤية هذه الساعة العجيبة، وظنوها من أمور السحر. الرشيد وأعمال الحج نظم العباسيون طرق الوصول إلى الحجاز، فبنوا المنازل والقصور على طول الطريق إلى مكة، طلبًا لراحة الحجاج، وعُني الرشيد ببناء السرادقات وفرشها بالأثاث وزودها بأنواع الطعام والشراب، وبارته زوجته "زبيدة" في إقامة الأعمال التي تيسر على الحجيج حياتهم ومعيشتهم، فعملت على إيصال الماء إلى مكة من عين تبعد عن مكة بنحو ثلاثين ميلاً، وحددت معالم الطريق بالأميال، ليعرف الحجاج المسافات التي قطعوها، وحفرت على طولها الآبار والعيون. وفاة الرشيد كان الرشيد على غير ما تصوره بعض كتب الأدب، دينا محافظًا على التكاليف الشرعية، وصفه مؤرخوه أنه كان يصلي في كل يوم مائة ركعة إلى أن فارق الدنيا، ويتصدق من ماله الخاص، ولا يتخلف عن الحج إلا إذا كان مشغولاً بالغزو والجهاد، وكان إذا حج صحبه الفقهاء والمحدثون. وظل عهده مزاوجة بين جهاد وحج، حتى إذا جاء عام (192 هـ= 808م) فخرج إلى "خرسان" لإخماد بعض الفتن والثورات التي اشتعلت ضد الدولة، فلما بلغ مدينة "طوس" اشتدت به العلة، وتُوفي في (3 من جمادى الآخر 193هـ= 4 من إبريل 809م) بعد أن قضى في الخلافة أكثر من ثلاث وعشرين سنة، عدت العصر الذهبي للدولة العباسية
|
مواقع النشر (المفضلة) |
الكلمات الدلالية (Tags) |
:::عبدالرحمن::: |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 2 ( الأعضاء 0 والزوار 2) | |
|
|
راديو قصيمي نت | مطبخ قصيمي نت | قصص قصيمي نت | العاب قصيمي نت |