العاب اون لاين: العاب بلياردو | العاب سيارات | العاب دراجات | العاب طبخ | العاب تلبيس |العاب بنات |العاب توم وجيري | العاب قص الشعر |
للشكاوي والاستفسار واستعادة الرقم السري لعضوية قديمة مراسلة الإدارة مراسلتنا من هنا |
|
|
|
أدوات الموضوع | التقييم: | انواع عرض الموضوع |
#81
|
||||
|
||||
القصة السادسة والأربعون
الغيمة المستكشِفة للكاتب خليل البيطار اختلف الناس جميعاً في إمكانية وجود صديق وفي، وكانت حكاياتهم لا تنتهي حول أهمية الصداقة وندرة الأصدقاء، لكن الغيمة ظلت تثق بالصداقة، وتحب أصدقاءها الكثيرين: الأطفال والأشجار والتلال والبحر والأمواج ورمال الشاطئ وأزهار الحدائق، فقد أتقنت لغاتِهم، وعرفت أمزجتهم، وصممت لكل منهم طريقة للتخاطب، كيلا تؤذي مشاعرهم، وكانت الأشجار والطيور والأزهار تحب الغيمة مثلما يحبها الأطفال أو أكثر قليلاً، فحين تُقبل تُستَقبل بمظاهر البهجة، وحين تمضي تُودّع بمشاعر الامتنان. لكن الزمن لا يترك أي شيء وشأنه، فهو ما يفتأ يغير ويبدل، ويهز ويزعزع، ويفرق ويشتت، تسعفه في مهمته الرياح العاتية والعواصف الشديدة، والزلازل المدمرة، وسواها من العاديات، لكن الغيمة ظلت عصية على التغير، وفية لأصدقائها، دقيقة في مواعيدها وطقوسها ومعابثاتها، فهي تبدأ بمعانقة التلال، ثم تبلغ الأشجار آخر طرفة حول الأشجار الهرمة والشجيرات الصغيرة، أو حول الطيور المشاكسة والزرافات المدعية وفئران التجارب، وتتابع مصافحة الورود، ومراقصة الطيور، ومعابثة الأطفال، وتلوم أولئك الذين نسوا إنجاز واجباتهم البيتية، وتحثهم على الاجتهاد. أحست الغيمة ذات يوم بالرتابة، ولاحظت أن حياتها تسير على نمط واحد، فهي تستيقظ باكراً، وتغادر سريرها البحري الوثير، ثم تتمشى قليلاً قبل أن تبدأ عملها، فتسقي البساتين والحقول، وتلتفت لمحادثة الفلاحين والسؤال عن أحوالهم، ثم تلقي التحية على الورود والأشجار، وتلعب وتدور مع الأطفال والطيور، قبل أن تعود أدراجها إلى البحر، وقد أخذ منها الجهد كل مأخذ، وتقطعت أوصالها، وتلاحقت أنفاسها، فتلقي متاعبها على الشاطئ، ثم تتابع تحليقات النوارس، وتصغي إلى حكايات البحر حتى تنام. لم تشكُ الغيمة يوماً من أحد، بل كانت تصغي وتتعلم، وتفتح صدرها لشكوى الآخرين، وتقابل عتابهم ودعاباتهم بتفهم حكيم، وصبر بحار، ويقظة راع، وقلب محب، ولم تتخلف يوماً عن نثر هداياها بمناسبة أو دونها، واستطاعت أن تحوز على ثقة الجميع بمن فيهم الأطفال الذين يصعب إرضاؤهم، بعكس الكائنات كلها كما هو معروف. سمعت الغيمة الأطفال يوماً يتحدثون بطريقة مختلفة، ويعرضون خططهم وطموحاتهم، وعرفت أن بعضهم يتمنى أن يقوم بجولة حول العالم، ويخطط لتنفيذ هذا الحلم منذ اليوم، وأدهشتها الفكرة فلم تنم ليلتها، وغرقت في سهوم صامت غامض يشبه سهوم الشعراء والعشاق، ولاحظ الأطفال صمتها، وقلقوا، وتشاوروا في حالها، وبحثوا عن إجابات صحيحة، لكن المسألة هنا كانت أعقد من مسائل الرياضيات، أو تدريبات النحو، أو موضوعات التعبير. لم يهتدِ الأطفال إلى معرفة سر صديقتهم المخبأ، وانتظروا أن تصارحهم بما تخفيه- على غير عادتها- لكن صمت الغيمة وقلقها طال وأقلقهم، وفي اليوم الثالث من الأسبوع الثالث من ربيع الأول، فاجأت الغيمة الحقول والتلال والعصافير والأشجار والورود والأطفال بقرارها الخطير، وأبلغتهم أنها تنوي القيام برحلة حول العالم. فوجئ الجميع بالنبأ، وحاولوا ثني الغيمة عن عزمها، ورجوها أن تعيد النظر في قرارها المتسرع، لأن التسرع يورث الهلاك، لكنها أجابتهم باعتداد وحسم، لم يتوقعوا سماعه منها، وقالت: من حقي الذهاب إلى أي مكان أريده. قدّر الأطفال أن الغيمة تمر بظرف صعب، وودوا مساعدتها، كي تظل صديقة مؤنسة وجارة وفية، لكنهم شعروا بالخيبة أمام إصرارها على الرحيل، ونكسوا رؤوسهم حزناً، وخيم عليهم صمت أغبر، لم يخفف من ثقله اعتذارات الغيمة للحقول بأنها لن تستطيع إرواءها بانتظام، وللتلال بأنها لن تستطيع غسلها كما عوّدتها، وللأشجار والورود لأنها لن تستطيع حمايتها من حر الشمس، وللعصافير لأنها لن تستطيع معابثتها، ولم يعد لديها بعد اليوم وقت تضيعه في الرقص والدوران، أما الأطفال فقد قالت لهم: إن عليكم أن تعتمدوا على أنفسكم، لأنني لن أستطيع إفادتكم بأي شيء خلال غيابي الطويل. أعدت الغيمة للرحلة عدتها، وأطلقت خيول عربتها المجنحة، وألقت نظرة على البحر واليابسة، وهمست للتلال بأحد أسرارها، ثم عبت ملء رئتيها من هوائها النقي، ومضت مبتعدة دون أن تثير ذرة من غبار، وانتابتها مشاعر متناقضة، امتزج فيها الحزن بالقلق والتشوّق: الحزق لفراق الأصدقاء وملاعب المرح، والقلق لخشيتها من الإخفاق والعجز عن المتابعة، فتغدو هدفاً لسخريات الجميع، والتشوق لرؤية مدن مضيئة، وتسلق جبال عالية، واكتشاف ورود نادرة. كانت الغيمة تسعى إلى تأكيد حقيقة لم يؤكدها أحد قبلها هي أن الغيوم تستطيع أن تفعل أكثر من البكاء، وأن الوهم السائد عن الغيوم، بأنها لا تجيد شيئاً سوى ذرف الدموع والشكوى والتأود والسير المتثاقل، لا صحة لـه، فللغيمات، دور في الاكتشاف والتنقية والمساعدة والمؤانسة وكشف الزيف. كثيرون عطّلوا رحلة المستكشفة الصغيرة، وكثيرون سخروا من أحلامها، وأسمعوها عبارات جارحة، وضحكوا من سذاجتها وجهلها مخاطر رحلات الاستكشاف، وراحوا يسجّلون قوائم طويلة بما يحتاجه المكتشف، وكادت بعض السخريات أن تثني الغيمة عن عزمها، لكن الأكثر إزعاجاً للغيمة كثرة المراهنين على إخفاقها، وتسلل خوف بارد إلى زوايا صدرها، وقد جعلها ذلك كله تعيد النظر في خطتها أكثر من مرة. الريح الشديدة أخّرتها، ودفعتها بعيداً عن مسار الرحلة، فسألت العصافير: ماذا أفعل؟ "قالت العصافير: اصمدي، الريح تقترب من تغير اتجاهها، وسنساعدك على الصمود وفاء لما قدمته لنا من منافع. وكلما واجهت الغيمة خطراً كانت تغوص في التساؤل: هل هذه هي الوجهة الصحيحة؟ "هل تتحقق تقديرات الساخرين؟.. كيف أواجه عيون الأطفال إذا أخفقت؟" وهل يحتمل أحد حكايات الإخفاق والهزيمة؟ لكنها كانت تغذ السير، وتوقظ عزيمتها بأغنيات ترددها، أو بإصغاء مرهف إلى أغاريد البلابل والزرازير وتهليلات أسراب القطا، وكان همها أن تؤكد لكل الساخرين والمشككين أنها حفيدة الغيمات الطموحات اللواتي مضين في رحلات بعيدة، لاكتشاف جزر جميلة ونباتات مفيدة، واكتشاف أعماق الغابات، وحمل رسائل رقيقة إلى قاطنين محتملين في الأجرام البعيدة. تمزق رداء الغيمة وشالها، وتجرحت قدماها، وتاهت مرات كثيرة، لكنها تحملت آلامها بعناد هرّ محاصر، وبهمة سلحفاة مثابرة، وبشغف حمام زاجل ينطلق صوب هدفه. لمحت الغيمة المستكشفة من نافذة عربتها طفلاً باكياً يجلس وحيداً فوق جسر على نهر دجلة من جهة الرصافة، فاستوقفها المشهد، ولم تشأ أن تبدأ رحلتها بلوحة حزينة، فسارعت إلى مواساة الطفل، ومسحت دمعه، وابتسمت له، لكنه لم يتعرّف عليها، فأهدته لعبة على شكل أرنب ناصع البياض، بعينين عسليتين، وقربت رأس الأرنب من كتف الطفل وهزته، فتحركت أذناه وداعبتا أذن الطفل، فأحس بدغدغة لطيفة، وحث نفسه على الابتسام، فهدأت مشاعر الغيمة ولوحت له بيدها، ثم مضت محلقة فوق النهرين الكبيرين المنحدرين من سلسلة جبلية عالية، وتذكرت الغيمة أن العرب وصلوا إلى منابعهما، وكسبوا ودّ الغيوم والجبال والأنهار والناس، لكنهم اليوم مترنحون كسالى، مضطرون لشراء كل شيء بثمن باهظ حتى المياه! ودارت الغيمة متجهة صوب الأرض السمراء وأطفالها سود الأعين. لم تجد الغيمة صعوبة في قطع المسافات الطويلة، لكنها وجدت صعوبات في عبور نقاط التفتيش على الحدود، وطالبها المفتشون بإبراز أوراقها الثبوتية، أو تعود أدراجها إلى الجهة التي قدمت منها، فحسدت الغيمة الغجر لأنهم كانوا يعبرون مع حاجياتهم ودوابهم دون تفتيش، وصعب عليها أن يجري تجاهلها، وهي السخية المشهورة، واستطاعت أن تجد وسيلة تقنع فيها مفتشي الحدود بأن لها غاية إنسانية، وأن الجوع والعطش عدوّاها وعدوا الأطفال، وهي قادمة للمساعدة، ورسمت هلالاً أحمر فوق علم عربتها الفضية، وتمكنت من عبور حاجز التفتيش في نهاية المطاف. رأت الغيمة على جانبي الطرق المتعرجة التي اضطرت لسلوكها أطفالاً سمر الوجوه، أيديهم قصبية، وأرجلهم مقوسة، وعيونهم جاحظة، توطن فيها الرعب والألم والاحتجاج، فمسحت شعورهم الجعدة، وقدمت لهم جرعات من الماء وعلباً من الحليب، ولم تنتظر سماع عبارات الشكر، وتركت عنوانها المؤقت لطالبي العون وهواة الرسائل منهم، ومضت باستقامة فوق الصحراء الممتدة، كان منظر الكثبان الرملية يشبه حزم حبال طويلة مرصوفة، أو ثياباً عسكرية صيفية منشورة في الشمس، وعجبت لامتزاج صفرة الرمال بحمرة قانية لم تتبين إن كانت آتية من حمرة الغسق، أو من نهر دم يتجه من أعالي الجبال صوب الصحراء الثكلى. مالت عربة الغيمة بعد عبور المحيط الداكن صوب البلاد المضيئة، وعجبت لنظافة الشواطئ وجمال الحدائق، وصفاء الوجوه التي لوحتها الشمس بسمرة الزخارف المنمنة والأقواس البهية، والشرفات التي لم تر مثلها من قبل، فاقتربت من سطح القصر لتشهد المنظر، لكن الحراس أبعدوها قائلين: الزيارة ممنوعة هذا اليوم، عودي في الغد ومعك النقود، عندها بكت الغيمة، وسالت دموعها في وادي الدموع، الذي يحتفظ باسمه منذ غادر ساكنو القصر مرغمين هذه الديار، ولم يسمح لهم برؤيتها أبداً. عبرت الغيمة المتعبة الحزينة قمم جبال ثلجية كأنها الحراب، وأطلت على مدن مضيئة أبنيتها شاهقة، مغمورة بالضباب، وقدرت أن هذا يساعدها على السير بحرية أكبر، ملتحفة الغيوم أو الضباب الكثيف، لكن لون الغيمة الأسمر ظل مميزاً، وسمعت من يشير إلى غرابتها أو إلى جمالها النادر، لكنها لم تجد من يدلها على الطريق، فتاهت عربتها في الطرق المتشابكة والمحطات المزدحمة، وصادفت غجراً سعداء، يقومون بألعابهم البهلوانية داخل خيمة سيرك كبيرة، ويؤدون حركات بارعة، ويلقي بعض المهرجين طرائف مسلية، وكان أطفال الغجر يؤدون الحركات نفسها ببراعة ذويهم، وراح بعضهم يطعم حيوانات السيرك أو يبيع الحلوى للمتفرجين. لم تتعب الغيمة كثيراً، لكن الشوق هدّ قواها، فقررت أن تطفئه بكتابة رسالة إلى أصدقائها، لكنها عدلت عن الفكرة لئلا تثير أشجانهم، وفضلت أن ترسل إليهم بطاقات بريدية جميلة عليها طوابع نادرة، وتذكرت حكاية سمعها أحد الأطفال من جدته، تقول: كانت الغيمة خيمة غبراء حزينة، ساعدتها الريح، وعلمتها التجارب والمحن أن تفك قيودها وتنفض غبارها، وتتحول إلى بساط ريح. لم تؤكد الغيمة الحكاية أو تنفها، واكتفت بابتسامة رأتها أفضل من أي نفي أو تأكيد. طافت الغيمة الباسمة فوق البحيرات والأنهار والغابات والجبال، والمدن المتربعة على الشواطئ المتعرجة، وتمنت أن يكون أصدقاؤها الأطفال بصحبتها، كي تشاركهم البهجة، وتتقاسم معهم سعادة المعرفة، وتنسى من خلال حكاياتهم ودعاباتهم متاعب الرحلة وألم الفراق، لكنها ما لبثت أن اكتشفت وسيلة جديدة ساعدتها على حفظ حكايات طريفة، من أجل أن تقصها على أصدقائها عند عودتها، فقد أعجبتها الحكايات الهندية والصينية والفارسية، مثلما أعجبتها الأبنية الشاهقة والزخارف الجميلة، وحرصت أن تجمع طرائف عن الأطفال والدمى والحيوانات، وتسجل قائمة بأسماء المكتبات الكبرى التي حوت أشهر المخطوطات العربية النادرة. طافت الغيمة في الأسواق، وضايقها الزحام، وأوصلها إلى حافة الاختناق، وأعجبتها البضائع المعروضة والألوان الزاهية والواجهات والأضواء، والألعاب الخاصة بالأطفال، فقررت أن تملأ عربتها بالهدايا حينما تعود، وتجاهلها الناس، وسخر بعضهم منها قائلاً: غيمة في السوق، من يشتريها؟ ومن يحتاج إليها؟ وآلمتها سخرياتهم، فمضت إلى سوق الطيور، وعجبت من عددها الكبير المأسور في الأقفاص، وسمعت أناشيد حزن ومقطوعات شجية، لا يدرك ما فيها من الألم إلا من عانى مثله، وما ظنه بعض السامعين غناء وتغريداً، رأته الغيمة مراثي شرقية، وتذكرت حكاية قديمة قيل فيها إنه كان هناك سوق للنخاسة، يباع فيها رجال ونساء وأطفال، ودبت في أوصالها رجفة وخشية من إمكانية عودة تلك الأيام السوداء، وتمنت ألا تعود، لكنها تعلم أن الأماني لا تقلي بيضاً كما يقول المثل، وأن مواجهة الشر تحتاج إلى قوى خيرة موحدة. عرض سكان مدن الضباب على الغيمة أن تبقى، فلم يعد هناك مبرر للرحيل، والريح غير مواتية، والإقامة ممكنة عندهم، فعقدوا اجتماعاً واسعاً دعوا إليه الغيمة، وتبارى متحدثون بارعون في امتداح جمالها وسرعتها ودورها في تقديم العون للناس، وللأطفال بخاصة، فأحست الغيمة بحرج شديد لأنها لم تقم إلا بجزء يسير من واجبها، وأشعرها الخطباء بالامتعاض لتلاعبهم بالألفاظ ولمبالغاتهم وصورهم واستعراضاتهم البلاغية المملة. وتوجت الكلمات باختيار الغيمة رئيسة فخرية لجمعية الغيوم الشاردة، وأُهدي إليها درع ثقيل، ودب بني يتأرجح ببالونات صفراء. فكرت الغيمة في كيفية التصرف إزاء هذا الكرم الزائف والمعاملة المحرجة، ثم وجدت مخرجاً ملائماً، وشكرت الحاضرين، ثم قالت: أما الهدايا فإني أقبلها، لأني أستطيع توزيعها على الأطفال المتفوقين الكثيرين الذين أصادفهم أينما توجهت، وأما الدرع فإني أتركه تذكاراً في جمعيتكم، وأما الرئاسة الفخرية فإني أعتذر عن قبولها لأني لا أحبذ الإقامة في مكان واحد، وأجد نفسي مشدودة لاختراق المسافات البعيدة واكتشاف الآفاق، وتقديم العون لأصدقائي الأطفال. قصت الغيمة بعض حكاياتها التي جمعتها على أطفال صفر الوجوه ناحلي الأجسام، فأشرقت وجوههم بابتسامات عذبة، وأحبوا كثيراً حكاية "الأفعى والقنفذ"، وحكاية "الفأرة والزرافة"، وحكاية "الزهرة والفراشة والشمس"، وأعجبوا بحكمة القنفذ التي أنجته من خديعة الأفعى، كما سرهم طموح فأرة المختبر التي تريد أن تغير العالم، وتعلموا من براعة الشمس، إذ استطاعت أن تعطي الزهرة والفراشة ما تستحقانه، وأن تفهمهما أن لكل كائن في الطبيعة دوراً يقوم به، وعملاً نافعاً يميزه ويجعله جميلاً، حتى الغيمة أرادت دخول المنافسة مع الزهرة والفراشة، لكنها حين سمعت عبارات الشمس تراجعت خجلة، ومضت تكمل رحلتها. جمعت الغيمة هداياها وحكاياتها، وأسٍرجت خيول عربتها، واتجهت صوب الأمازون، وأدهشتها الغابات الكثيفة والمياه المتدفقة، ورحبت بها الطيور والغزلان، ودعاها أطفال بصدور مكشوفة إلى اللعب، لكنها شكرتهم، واعتذرت عن المشاركة بسبب مشاغلها الكثيرة، ومضت تستطلع الوجوه والتماثيل، وتستنطق التواريخ المحفورة على الصخور وشاهدات القبور. طالت غيبة الغيمة، ونسيت نفسها، وتغير لونها، وازداد شوقها إلى العودة، لكن شوق الأطفال والحقول والتلال كان أكثر، وهمست العصافير قائلة: اشتقنا للغيمة، ولصراحتها الجميلة وكرمها وطيبتها، وقالت الأشجار والورود وهي تنكّس رأسها حزناً: العطش والحزن ثقيلان لكن فراق الغيمة أثقل منهما، وقال الأطفال بعد انتهاء لعبتهم المفضلة "استر": طالت غيبة الغيمة، واشتقنا إلى ظلها ومطرها، وافتقدنا دعاباتها ولوحاتها المضيئة. ولم تكن الغيمة أقل من أصدقائها شوقاً وحزناً، لكنها كانت مصرة على متابعة الرحلة حتى النهاية، إذ ليس من عادتها التراجع عن خطوة أعلنتها أمامهم، ولا تحب أن تُسأل عن مكان أو حادثة مهمة، وتجد نفسها عاجزة عن الإجابة. تمشت الغيمة قرب صخور الشواطئ، ورأت المراكب الضخمة وحاملات الطائرات، ولمحت غواصات تغيب في الماء ثم تظهر مناقيرها الطويلة، وعجبت من حركاتها المخادعة، وداعبت النوارس ومسحت رؤوس الفقمات المستحمات في الضياء الساطع، ورأت أطفالاً سعداء يتبادلون الكرة فوق الرمل النظيف، أو يرسمون خطوطاً وأنفاقاً، وسرها أن يدعو كل منهم زميله كي يريه ما صنع، وأُعجبت بنشاط الأطفال، وحركتهم الدائبة وحيويتهم الفياضة، وإقبالهم على الحياة إقبال من يخطط كي يعيش ألف عام، وانتبهت إلى جلبة أطفال آخرين، يلعبون فوق حطام مركب قديم، ولم تعجبها صيحات النصر التي أطلقها فريق القراصنة، على الرغم من عدده الضئيل، وأسفت لرؤية فريق البحارة يبتعد عن المركب نحو الماء أو صوب الرمال، يختبئ بعيداً عن الخطر، وفي اللحظة التي اندفعت فيها الغيمة لمساندة فريق البحارة، أنهى الأطفال لعبتهم، واستلقوا ضاحكين فوق الرمال، وحزنت كثيراً لأن المساعدة تأتي غالباً متأخرة نصف خطوة. لاحظ أطفال الأمازون أن الغيمة تغير اتجاهها، وتعدل سرعتها، وتبحر في الفضاء الأزرق الواسع، وراحوا يتبارون في تفسير ذلك، فلم يتبينوا بالضبط إن كان تغير اتجاه الريح، أم منظر المركب المحطم الذي يذكر بالنهايات غير السعيدة للرحلات الطويلة، أم انشغال الأطفال عنها باللعب، أسباباً كافية كي ترحل بعيداً، وقبل أن يلحظ الأطفال ابتعادها، وتنطلق حناجرهم بأغنية تدعوها إلى الإقامة، أو المكوث قليلاً عند الشاطئ، كانت الغيمة قد عبرت السلسلة الجبلية المحاذية لشاطئ البحر، مضت في طريق التعرف على هذا العالم العجيب وناسه وأشيائه، ومشاهدة الدلافين تمرح قافزة أو مندفعة نحو قلب الموجة، حتى إذا استشعرت خطراً يحيق بمخلوق ضعيف، أسرعت إلى نجدته، وقد رأت الغيمة بأم عينها دلفيناً يدفع طفلاً مشرفاً على الغرق نحو الشاطئ، فشكرته على فعلته. كثرت تساؤلات الفضوليين للغيمة عن وجهة سيرها وغايتها ونوع عربتها، وهل تحمل مالاً أو أسفاراً، ودعاها بعض الناس إلى المكوث أو التوقف، فاكتفت بانحناءة خفيفة لهم على الطريقة الآسيوية، أو بتلويحة شاكرة على الطريقة العربية، وعند أحد المعابر الجبلية أُوقفت الغيمة، ووُجهت إليها تهمة تهديد الاستقرار وخرق المعاهدات، ثم أودعت قبل سماع حجتها أحد السجون الضخمة، ورأت هناك أناساً جفت عروقهم وضاعت ملامحهم، وأثقلتها الأغلال، وأنهكتها الرطوبة، فاستعانت بتعويذة سحرية ورثتها عن جدتها السحابة، وهربت من كوة صغيرة في جدار السجن دون أن يلاحظها الحراس، وتابعت رحلتها إلى الجزء الآخر من العالم، كي تبلّغ تحيات الأطفال التي تحملها إلى أقرانهم، ورغباتهم في أن يزوروهم ويتعرفوا عليهم. وزعت الغيمة الهدايا التي حملتها في عربتها على أطفال القارات البعيدة، قائلة: هذه عربون محبة وصداقة، فشكروها قائلين: سنذكرك دائماً. وكان على الغيمة إنجاز كثير من الأعمال، لكن الحنين إلى أصدقائها استبد بها، وإن لم يثن عزمها على الوصول إلى جبال الجليد، وتجاهلت تحذيرات الناس والطيور بأنها ستتجمد هناك، ولن تستطيع العودة، وقيل لها: إن العناد يقود غالباً إلى عواقب لا تحمد. رغبة الاكتشاف ومشاعر التحدي، ومتعة مواجهة الصعاب التي تمنح الحياة طعماً، قادت الغيمة إلى المنطقة القطبية، وهالها بساط الجليد الممتد كمرآة ضخمة، ولاحظت أطفالاً عيونهم صغيرة، يلبسون الفراء، ويحاولون بناء بيوت صغيرة من الجليد، وودت مساعدتهم، لكن يديها لم تسعفاها على تقديم أي عون، فاكتفت بإلقاء التحية عليهم، وتقديم قفازات صوفية وكتب حكايات ملونة وقطع حلوى. حاولت الغيمة توجيه عربتها نحو طريق العودة، لكن العربة تعطلت، وصعب عليها المضي في المسار المتجمَد، فاستعانت بشوقها لأصدقائها ونشاطها المثابر، لإعادة الحياة إلى روحها المتحدية، وإلى عربتها المتمايلة، وانطلقت مبتعدة عن قارة الثلج والجليد، وأناسها المغلفين بالفراء، وأطفالها الذين يشبهون صغار الباندا. ازداد قلق أصدقاء الغيمة لغيابها الطويل، فقال فياض: تأخرت الغيمة واشتقنا لمعابثتها، وقالت زهراء: ليتها تعود سريعاً فنسمع حكاياتها، وقال ماهر: أنوي أن أفعل مثلها حين أكبر، وقالت لمياء: لا تنتظروا عودتها، لأني أتوقّع أنها غضبت من تجاهلنا لها، وقال سعد: يعجبني طموح الغيمة، وأقدر أنها تنوي أن تعلمنا التحدّي وتحمّل الأخطار، وتعاهد الأطفال على أن ينتظروا ويروا. وقالت الحقول والورود: إن لم تعد الغيمة هلكنا، وقالت الأشجار: حجة الغائب معه. وحافظت التلال على وقفتها المتأملة وانتظارها الذي لا يكل، وعلى صبرها الذي لا ينفد. وفي اليوم الذي لم يتوقع أحد فيه رؤية الغيمة، أو عودتها، هبت ريح ناعمة نديّة، وأهدى البرتقال اليوسفي للشمس لونه، وزادت الطيور من تحليقاتها ومرحها، وتمايلت الأشجار وأفاقت الورود من نعاسها الطويل، وبدا أن خبراً سعيداً سيُزف قريباً إلى الجميع. صحيح أن الريح همست للتلال، وأبلغتها أن الغيمة ستصل بعد قليل، ورأت الطيور الريح تهمس، فعرفت أن أمنية جميلة ستتحقق، لكنّها لم تتبين حقيقتها، أما الأطفال فقد أصغوا لهمس الريح، بعد أن أوقفوا لعبهم، وتركوا أبصارهم ترعى التلال، وتتابع حركات الطيور وتشكيلاتِها البديعة، وتتملى ألوان الورود المستفيقة، وراحت مخيلاتهم ترسم وجه الغيمة الباسم، وعربتها المندفعة صوب ربوع الوطن. وبينما كان الجميع في همس ومرح وأحاديث متشعّبة، وتوقّعات بعيدة عن التصور، أطلَّ موكب الغيمة محمولاً على عربات الريح، لم تكن مسرعة لكن الشوق دفع عربتها، وكأنها تحسّست شوق أصدقائها، وتابعت سيرها تخب بمشية المنتصر حتى بلغت وسط القبّة الزرقاء، واصطفت خلفها وحولها غيوم كثيرة سمراء وبيضاء، وبدت حائرة في شرح سر غيابها الطويل لأصدقائها، وتفسير أسباب تأخرها، مثلما حارت في انتقاء حكاية تبدأ بها حديثها، ولم تستطع أن تكتم مشاعرها التي اختلطت فيها البهجة بالتأثّر، وودت أن تمازح الأطفال، لكنّ دموعها طفرت دون أن تستطيع كبحها، واكتفت بنثر هداياها دون أن تسمّي أصحابها، وعرف الجميع أن الهدايا تخص كل فرد منهم، مثلما تخص الأشجار والورود والتلال والحقول والطيور والأطفال المشاكسين، وكانت الهدايا كتب حكايات مزينة بلوحات جميلة، وعلباً فضية ملفوفة بشرائط بيضاء، تحملها عربات مائلة إلى البياض، تجرها جياد بيض، ويقودها رجال بلحى بيضاء وقلنسوات فضية. قالت الغيمة والابتسامة تضيء وجهها: العالم جميل واستكشافه أجمل، وقد وصلت إلى حدود الكوكب الأرضيّ، ورأيت مدناً مضيئة وجبالاً وأنهاراً وشلالات وسدوداً وأسلاكاً وسجوناً، ورأيت أطفالاً جياعاً وطفلات عليلات، وطفت في شوارع مزدحمة بالبضائع، وعبرت قمماً عالية، وزرت متاحف تضم كنوزاً نادرة، لكني عدت من رحلتي بحقيقة تساوي تلك الكنوز التي شاهدتها كلها، وهي أن العالم الفسيح قد استكشف، والبحار العميقة قد استكشفت، لكنّ زوايا كثيرة في أعماق الإنسان ما زالت غامضة تنتظر من يستكشفها! وقد أعادني الشوق ورغبة البحث إليكم، لأتابع رحلة الاستكشاف هنا بينكم، وعند ذلك غالبتها دموعها، وإن لم تفارقها الابتسامة! لم ينظر أحد في عيني الغيمة الدامعتين، ولم يلحظوا إلا ابتسامتها الواسعة، لكنهم أدركوا بسهولة أنها تغيرت في رحلتها الطويلة كثيراً، وغدت أكثر شحوباً وكرماً، وأفرح الغيمة أنها وجدت أصدقاء ينتظرونها بشوق، وأدركت أهميّة إحساس الكائن أن هناك من يفكر فيه ويسأل عنه، وقطعت عهداً لأصدقائها ألا تغيب طويلاً، وأبلغت أصدقاءها المحتشدين أنها تعلمت من رحلتها أن تكون أكثر حرصاً على مواعيدها، وأكثر اهتماماً بأصدقائها. فرح الأطفال بوعد الغيمة، وشكروها على هداياها الجميلة، وأهدوها طفل ثلج بعينين زجاجيتين، وأنف أحمر وقلنسوة بنية، وجعلوا في يده غصناً أخضر، وكانت يده الأخرى تلوّح محيّية الغيمة والتلال والريح، وعربات الغيوم السريعة، وكأنّه يودّ أن يصافحها، أو يتوقع أن تحمله إحداها بعيداً كي يطوف العالم، ويتعلّم ويستكشف ويعرف مثل الغيمة الشجاعة.
|
#82
|
||||
|
||||
القصة السابعة والأربعون
صراع الحواس بقلم الكاتب: السيد نجم في المدينة العجيبة البعيدة, مدينة الحواس, اشتد الصراع بين الملكة "عين" وبقية الحواس(السمع, الشم, التذوق, واللمس). فقد زاد الإزعاج والضجيج فتألمت الأذن وضعفت حاسة السمع, كما زاد الضوء الباهر والإشعاعات من الأجهزة الإلكترونية فضعفت حاسة البصر ومرضت العيون. ولما أهمل الجميع النظافة تململت كل الحواس (سكان المدينة). لم تكن حاسة اللمس آجرها, بل سبقتهم جميعا, فترك "الإصبع الكبير" المدينة وانعزل وحده عند شاطئ البحر. قررت الملكة "عين" الذهاب إلى "الإصبع الكبير" لإعادته, ورافقتها كبيرة الأذن. فور أن صافحهما قال: "أعلم أن المدينة لا تعيش سعيدة من غيري, لأنني أحس بالحرارة والبرودة, فأخبر سكان المدينة لتلافى شرورها..حقا أنا أفضل من كل الحواس". فقالت الملكة بغضب:"انك حقا مغرور كما يقولون عنك, قد يكون في كلامك الحق, لكنه ليس كل الحقيقة!".. وبسرعة قالت "الأذن": " بل أنا الأفضل, أسمع الضجيج فأحذركم من أضراره"! ابتسمت "العين" وهمست بصوت مسموع:"وماذا أقول عن نفسي, كم من مرة رأيت الأخطار وأنقذت سكان المدينة كلهم!!".. فضحك "الإصبع" بصوت مسموع قائلا: " حضرتما لإعادتي, تشاجرتما معا.. دعوني أذهب إلى كوخ, كالصغير لأعيش وحدي سعيدا"!! قبل أن يتحرك أحدهم, كان المشهد المرعب المثير, ثعبان خبيث يتجه ناحية "الإصبع", صرخت الملكة "عين": "أسرعا فورا بعيدا عن هنا..انه الثعبان الشرير".. وبسرعة هب ثلاثتهم واستقروا بعيدا. فورا ضحكت "عين" وقالت: "لولا وجودي معكما الآن لانقض عليكما الثعبان".. فقال "الإصبع": " قد يكون في كلامك الحق, لكنه ليس كل الحقيقة!". لفترة قصيرة هدأ الجميع وانشغل الإصبع في صنع شكل غريب من الطين, ثم قال لهما: "سوف أجعل هذا الشيء العجيب يخيف الثعبان, فلا يقترب منى أبدا. ما رأيكما أطلق عليه اسم "وافى". وانقضى بعض الوقت وهم يشربون معا الشاي ويأكلون الكعك الذي قدمه "إصبع". فجأة أخبرتهما "عين" أنها رأت انحوه.الماكر يسرق بعض المأكولات من نحوه.خ إصبع, والكائن الجديد أسرع نحوه..ونجح في اللحاق به. فقالت الأذن: "ما جدوى وجودك وحدك, لولا أن الملكة عين رأت ما رأت, وأنا سمعت المعركة بين الثعلب و"وافى"..ما كنت أدركت المصيبة التي تتعرض لها "! فهم "الإصبع" ما تعنيه, فقال بتحد: " هل تعرفين الحكمة من تماثيل الفنان الهندي الذي صنع تماثيله على شكل القرود, منها ما يخفى عينيه, وما يضع يده على أذنيه وفمه؟؟". لم يسمع أجابه, تابع وحده: "معنى تلك التماثيل..أن الشرور كلها بسبب العين والأذن واللسان!!" في هدوء وثقة أرادت الملكة عين أن تلقنهما درسا, أخرجت جهاز الكمبيوتر الذي أحضرته معها, وهى لا تسير يدونه.. ثم فتحت موقع المعلومات عن الحواس. بدأت تقرأ لهما وتقول: "هل تعلما أن كل الحواس توجد في الإنسان والحيوان, لكن حاسة البصر وحدها التي توجد في الإنسان وأغلب الحيوانات والطيور والأسماك..بينما بقية الحواس توجد بأقل من ذلك كثيرا!!" اعترض "إصبع" وأخبرهما أن "الإخطبوط" يملك عينين ولا يستخدمهما, بل يعتمد على عشر أذرع وعلى حاسة اللمس أساسا!. قبل أن ينتهي الحوار أسرعت الأذن وأخبرتهما أنه لولا حاسة السمع ما عرف الإنسان الكثير من الأمراض. وبدأت تقص غليهما قصة اختراع "السماعة الطبية" وكيف أن الدكتور "رينيه" الفرنسي, نجح في تشخيص مرض الفتاة عندما صنع بوقا وضعه على صدرها ثم سمع صوت دقات قلبها..وشخص المرض وأعطى العلاج المناسب! فجأة صاحت الملكة عين وصرخت قائلة: أرى البرق, أسرعوا بعيدا ".. تابعتها الأذن: "وأنا الآن سمعت رعدا شديدا".. فورا تابعهما الإصبع: " بل أحس برذاذات المطر الآن.. هيا بنا فورا إلى داخل الكوخ"..... أسرعوا جميعا إلى داخل الكوخ حتى انتهت الأمطار الغزيرة, وعادت السماء صافية, وأضاءت الشمس الأرض, وانبعث الدفء في أجسادهم..فشعروا بالسعادة والفرح. فورا قالت العين: "لولا أن رأيت البرق وأنذرتكما لهلكتما بسبب المطر".. اعترضت الأذن:" بل لأنني سمعت الرعد !!".. تابعهما "إصبع":" الحقيقة أنا الذي أنقذتكما, عندما أحسست بالأمطار, أسرعتما إلى داخل الكوخ!!" أسرعت الملكة عين وأخبرتهما بأنها أرادت أن تشاركهما اللعبة, وأنها مقتنعة بشيء آخر..لا هي العين وحدها, ولا الأذن أو الإصبع؟! فانبرى الإصبع: " ماذا إذن؟!!" تابعت الملكة قائلة:" الآن أخبرني الكومبيوتر..أن كل الحواس من أصل خلية واحدة, ثم تخصص جزء منها في الرؤية, وآخر في السمع, وغيرها في الشم أو اللمس..وهكذا كل الحواس" فقالت الأذن: " إذن لا فضل لحاسة على حاسة" تابعها الإصبع: " إذن سوف أعود معكما.. نتعاون معا من أجل أن نحافظ على بعضنا البعض, ولا نتصارع مهما كانت الصعوبات" وتعانق ثلاثتهم فرحين بالعودة !!!
|
#83
|
||||
|
||||
القصة الثامنة والأربعون
أسرار حرب الكائنات الدقيقة - 1 - شيد هذا المعمل الغامض داخل بقعة صحراوية بعيدة.. خلف أسوار مرتفعة, والمزودة بكل أجهزة الإنذار الإلكترونية, وشاشات المراقبة التصويرية, وغيرها الكثير من وسائل التأمين التي قد لن يتعرف عليها أحد.وربما حتى لو اقتربت طائرة مروحية من أعلى لاكتشاف عما يدور داخله, وقد شيد بالكامل تحت سطح الأرض؟؟ لقد شيد الدكتور "حرب" هذا المعمل لدراسات الهندسة الوراثية, وأغلب العاملين فيه على قلة عددهم من العلماء, مع عدد قليل جدا لأعمال الأمن وتجهيز الطعام وتنظيف الموقع. فالمعمل كله يعمل بدوائر تليفزيونية, وبالأجهزة الآلية التي تعمل بالبعث الحراري للأفراد.. سواء في أعمال المراقبة أو تشغيل الأجهزة. منذ حوالي عشرة أعوام نفذت منظمة غامضة من الأشرار خطتها, وكلفت الدكتور حرب بمهمة إنشاء وتشييد ذلك المعمل في الصحراء, وذلك لإجراء البحوث والتجارب على الكائنات الدقيقة –وهى التي لا نراها بالعين المجردة, بل يلزم استخدام المجهر أو الميكروسكوبات المتقدمة- أما الدكتور "حرب" فهو من القلائل المتخصصين في مجال علم الهندسة الوراثية, ولأن الجميع يعرفونه بأفكاره الشريرة, لم يجد سوى تلك المنظمة التي تقدم له العون والدعم المالي. فقد وعده رؤساء المنظمة بإعطائه منطقة كبيرة في أفريقيا, يسيطر عليها ويقيم فيها كل ما يحلم بتنفيذه, خصوصا أن تلك المنظمة تسعى للسيطرة على كل مساحة الكرة الأرضية, ويرددون في مجالسهم الخاصة أن هذا العالم يجب أن يسيطر عليه العلماء من أمثال "حرب" هذا!!
|
#84
|
||||
|
||||
-2-
وبعد كل تلك السنوات في العمل الدائم والسري الغامض, نجح الدكتور حرب وأنتج قنبلة جديدة..صغيرة الحجم جدا. داخلها بعض من تلك الكائنات الدقيقة, لم تكن سوى أصناف من البكتيريا أو من الفطريات والخمائر. فقد نجح العالم الشرير بالعبث في شريط "الكروموزومات" (وهو الموجود داخل كل خلية ويحمل الصفات الوراثية للكائن الحي) بها وجعلها قادرة على إصابة أي إنسان أو حيوان أو حتى نبات بالأمراض الغامضة الخطيرة فورا. شعر العالم الشرير بالزهو والانتصار, فقرر أن يقيم حفلا يضم كل العاملين معه. وفى قمة سعادته, وسط الجميع اعتلى المقعد الذي يجلس عليه, ووقف فوقه موجها حديثه إلى رجال المعمل, وأخبرهم بما أدهشهم, فقد قال: " يسعدني أن أعلن عليكم اليوم نجاح المهمة التي من أجلها إنشىء هذا المعمل... نجحت أخيرا في إنتاج سلاحا جديدا لم تعرفه البشرية من قبل...أعلم أنكم معي, ولا تعلمون أهداف هذا العمل, الآن أخبركم... إذن فقد نجحت في إمكانية السيطرة على هذا العالم بأسره, وقريبا سوف أعلن نفسي حاكما على مساحات كبيرة منه..." ولما سمع بعض الهمهمات, وعلامات الدهشة على وجوه بعضهم, صرخ فيهم: "لماذا لا تهللون؟ لماذا لا تهتفون بأسمى....؟!" بدت الدهشة على وجوه بعضهم من الشرفاء, يبدو أن حربا خفية قد بدأت.
|
#85
|
||||
|
||||
-3-
علم الدكتور حرب برفض بعض مساعديه لفكرته الشريرة.. بدأ في إنشاء شبكة من آلات التصوير الصغيرة جدا, وأجهزة التصنت, في غرف النوم قبل المعامل, وفى الأماكن المفتوحة قبل الأماكن المغلقة, لرؤية ولسماع كل ما يدور بينهم في أي وقت وفى أي مكان. فضل المساعدون إعلان غضبهم في صمت خوفا من بطش رئيسهم الشرير, إلا أنهم انتهزوا فرصة تبادل بعض التقارير العلمية حول تجاربهم وأعمالهم, وأضافوا بعض الكلمات التي تبدو عادية إلا أنها لغة جديدة بدءوا يستخدمونها. وبتلك اللغة أو الشفرة الجديدة, بدأ بعضهم يعبر عن غضبه من هذا العالم الشرير الذي نجح في خداعهم, جعلهم وسيلة لنشر الشر والخراب في العالم. ومع ذلك بدأ بعضهم الآخر التفكير في مقاومة شر هذا العالم الشرير. قرر بعضهم تحطيم تلك الأطباق الزجاجية التي تنمو فيها تلك الكائنات الدقيقة. وفي منتصف الليل بينما اعتقدوا أن الدكتور حرب نائما, بدءوا ينفذون خطتهم. لم تطل فترة المحاولة, فعملاء العالم الشرير استطاعوا السيطرة على هؤلاء المتمردين, بل واستطاعوا القبض عليهم تحت تهديد السلاح.. كل ذلك بفضل الشبكة السرية التي لم ينتبه إليها العلماء الشرفاء! أمر العالم بعزلهم في مكان بعيد بالمبنى, ثم قال بصوت عال وكل ملامح وجهه تعبر عن السعادة الغامرة: "إذن سوف نبدأ بهؤلاء المتمردين.... من الآن سوف نجرى التجارب الفعلية لمعرفة أثر ما صنعناه في تلك الكائنات الدقيقة..لعلنا نعرف شكل تلك الأمراض الغريبة التي ستصيب البشر, وكل الكائنات الحية. "!!
|
#86
|
||||
|
||||
-4-
من جديد وبكل الحرص بدأ الدكتور حرب في جمع بعض مزارع الكائنات الحية المختلفة. كان يحفظها في الأطباق الزجاجية التي تحطمت بسبب العلماء الغاضبون. فلما وضعها ثانية في جهاز "الأتوكلاف" وهو الصندوق الحديدي المجهز بدرجات الحرارة والرطوبة المناسبتين لنمو الكائنات الدقيقة. وما أن أغلق الباب حتى أسرعت "بكتيريوم" منها(وهى مفرد بكتيريا) وهللت فرحة تقول: "هذا المخلوق العملاق المسمى الدكتور حرب, رجل طيب!" وتابعت البكتيريوم تهليلها وصراخها تعبيرا عن الفرح, فإذا ب"الأميبا" وهى ملكة الكائنات الدقيقة تصرخ فيها وتأمرها بالصمت ! صمتت البكتيريوم لكنها شعرت بالإهانة, فتمتمت في نفسها تقول: "لماذا غضبت الأميبا الملكة؟ لقد عبرت عن سعادتي بعودتي إلى هذا المكان الدافئ, ومع هذا الغذاء الوفير؟!!". فشعرت الملكة بقسوة ما فعلت مع البكتريوم الصغيرة, شعرت بالشفقة عليها, وأرادت أن توضح لها الأمر, فقالت: "يا صغيرتي العزيزة, لابد أن تعرفي الحقيقة..إن هذا المسمى الدكتور حرب رجل شرير ..انه يستخدمنا لإنتاج السلاح القاتل لكل الكائنات الحية.. الإنسان والحيوان والنبات وحتى أهلنا من الكائنات الحية الدقيقة" اعتذرت البكتريوم عما بدر منها, وأنها فعلت ما فعلته لأنها لا تعرف الهدف الشرير الذي يدفع هذا العالم. تابعت الملكة وقالت: " لا تعتذري يا صغيرتي... فقط لا تتسرعين في الحكم على أي شئ قبل التأكد من حقيقته." ودار الحوار طويلا بينهما, بينما تابعت أفراد المملكة الحديث وشارك الكثير منهم. فقال بعضهم: "منذ قديم الزمان والحرب بين الإنسان والكائنات الدقيقة مشتعلة, ودائما يسعى الإنسان إلى التخلص مننا, وحتى قبل أن يعرف أشكالنا ووظائفنا والتفاصيل الكثيرة التي يعرفها الآن ومنذ قرن من الزمان تقريبا." تابعت بكتريوم أخرى: "بل نسى الإنسان انه ومنذ زمن بعيد وهو يستخدمنا في طعامه وشرابه, وحتى قبل أن يرانا ويعرفنا.. صنع الكحول والخل والورق..وغيرها كثير, كل ذلك بفضل عملنا معه" تدخل الملكة وحاولت أن تهدئ من غضبهم, إلا أن "الخميرة" صرخت وقالت: "لن نهدأ قبل أن نحاكم ذلك الإنسان.. الكائن العملاق الظالم!!" فوافقت الأميبا الملكة !
|
#87
|
||||
|
||||
-5-
بوقار وقوة أعلنت الملكة بدء جلسة المحاكمة, بعد أن حددت وظائف كل من الكائنات الدقيقة, وبدأت بتلك البكتيريوم العجوز التي تعلوها الحكمة ورجاحة العقل, تقوم بعمل وكيل النيابة. وبدأت النيابة في سرد تاريخ الصراع الطويل بين الإنسان والكائنات الدقيقة: "يبدو أن هذا الكائن العملاق ولأنه لا يرانا بعينية المجردتين, من الغرور يظن أننا ضعفاء.. وينسى أن بعض العلماء منهم قال أن الحياة بدأت على الأرض بوجودنا نحن عليها, وقبل أن يظهر هو على الأرض. ثم كيف نكون هكذا ضعفاء كما يقول, ونحن فقط نستطيع الحياة في كل بيئة, وفي كل مكان.. سواء في البر أو البحر أو في الهواء. وأيضا نعيش في المناطق الاستوائية الحارة والمناطق الجليدية في القطبين الشمالي والجنوبي للأرض." فجأة وقفت البكتيريوم التي تقوم بدور الدفاع عن "الإنسان", وأكدت أن الكائنات الدقيقة أصابت الإنسان طوال التاريخ بأمراض ومشاكل كثيرة..تصيبه وتصيب النباتات التي يزرعها, والحيوانات التي يربيها. لم تستطع "الخميرة" (وهى تمثل الدفاع عن الكائنات الدقيقة) أن تصبر أكثر من ذلك, نهضت وأخبرتهم جميعا عن قسوة الإنسان في حربه الشرسة ضدهم..سواء باستخدام المطهرات والمضادات الحيوية.. بل قد يقوم الإنسان القاسي بحرق الأجزاء المريضة عنده وهى عندنا المكان الذي نعيش فيه ونتغذى! تابعت أخرى من موقع المتابعين, وأقسمت أن أشعة الشمس وحدها كفيلة بقتل كل الكائنات الدقيقة لو تعرضوا لها لفترات طويلة, ثم وصفت الكفاح من أجل الابتعاد عن تلك الأشعة المهلكة القاتلة. تدخلت الملكة حتى تتابع الخميرة دفاعها, الذي وضحت فيه أن الكائنات الدقيقة ومنذ قديم الزمان يستغلها الإنسان في إنتاج طعامه, وحديثا في البحوث العلمية.. مثلما يفعل الدكتور حرب الآن! عند هذا الحد وقفت الملكة, وقد انتفخت وزاد حجمها بشكل لم يرها أحدهم هكذا أبدا. يبدو عليها الانفعال والغضب, ثم قالت: " يا شعب مملكة الكائنات الدقيقة.. أنا الأميبا الملكة أتحدث إليكم... قررنا إعلان الحرب على هذا العملاق العالم الشرير, وسوف نحاربه بالسلاح الذي ابتكره لقتل كل الكائنات الحية !!" هلل الجميع فرحا للانتقام من العالم الشرير.
|
#88
|
||||
|
||||
-6-
لم يمض الوقت طويلا.. بسرعة تجمع الحكماء من الكائنات الدقيقة, التفوا حول الأميبا الملكة التي أعلنت بدء مناقشة الخطة العملية لبدء الحرب المنتظرة. كانت المشكلة الأساسية هي الإجابة على السؤال: كيف تصل الكائنات الدقيقة إلى داخل جسد الأشرار؟ طالت المناقشة حتى انتهوا إلى وضع الخطة العملية في خطوتين أساسيتين..الأولى أحداث جروح وإصابات في أي مكان بجسد الأشرار, والخطوة الثانية اقتحام تلك الجروح والوصول إلى داخل جسد الأشرار عن طريق الدم. وفى سرية تامة بدأ كل منهم يعرض أفكاره وأرائه في حل هذه المشكلة أو تلك, وما هي احتمالات النجاح والفشل في كل فكرة.. حتى انتهوا تماما من كل التفاصيل الصغيرة, ثم وقفوا جميعا وأقسموا بالإخلاص لمبدأ القضاء على الشر والأشرار .
|
#89
|
||||
|
||||
-7-
في صباح اليوم التالي, وفى الثامنة تماما بدأ الأشرار في فتح "الحضانات" أو تلك الصناديق الحديدية التي تعيش داخلها الكائنات الدقيقة من أجل البدء في متابعة العمال اليومية العادية. ما هي إلا دقيقة واحدة حتى بدأت خطوة تنفيذ المرحلة الأولى.. فاندفعت الكائنات الدقيقة وقذفت بنفسها نحو الدكتور حرب ورفاقه.. في البداية ركزوا أنفسهم نحو عيون الأشرار.. لفترة قصيرة جدا لم يشعر الأشرار بشيء.. وبعد دقائق قليلة ومع متابعة الكائنات لمهمتهم الانتحارية.. بدأ يشعر الأشرار بشيء ما غامض وغريب..! فجأة احتقنت عيون كل الأشرار.. بدءوا يشعرون بغشاوة وعدم وضوح الرؤية.. كثيرون منهم وعلى رأسهم الدكتور حرب يشعرون بألم غامض. وما هي إلا لحظات حتى صاحت الملكة وأمرتهم بالاتجاه نحو أنف وأذن وفم الأشرار.. إلى كل فتحات أجساد الأشرار. فعلت أصوات العطس, والصراخ بوجود "طنين" في الأذن..بينما علت ضحكات الاميبا الملكة وبقية أفراد جيش الكائنات الدقيقة. ولما انشغل الأشرار بإصابتهم الغامضة, من عدم الرؤية بوضوح وطنين بالأذن وعطس مستمر.. فقدوا القدرة على التحكم في خطواتهم, أو تحديد اتجاه حركتهم داخل المعمل..فسقط منهم من سقط على الأرض, ومنهم من اصطدم بالحائط.. ومنهم من ارتطم بزميله.. وهكذا حتى بدأت تصاب أجسادهم بالجروح والخدوش التي هي ضرورية لتنفيذ الخطوة الجديدة!!
|
#90
|
||||
|
||||
-8-
انشغل الجميع, كل بحاله, وهم يسبون رئيسهم الدكتور حرب. للمرة الأولى يصرخ أحدهم في وجهه غير مكترث بغضب زعيمهم: "ساعدنا يا دكتور حرب.. أنا أشعر بالانهيار.." عقب آخر: " بل فسر لنا أولا هذا الذي يحدث..؟ شرد زعيمهم ثم قال: "أنا لا أجد ما أعقب به ولا أجد تفسيرا" زادت الحيرة, فزاد القلق.. وعمت الفوضى كل مكان في المبنى الغامض كله. وما هي إلا دقائق قليلة حتى سمعوا صوت الدكتور حرب وهو يصرخ فيهم قائلا: " أيها الملاعين.. يا تلاميذي غير المخلصين.. أشكو من اضمحلال بصري.. أكاد لا أرى شيئا.. ساعدوني!!" رد آخر من هناك: " إنني أسمع أصوات الصراخ في كل مكان بالمعمل.. أما أنا فقد أصبت بطنين في أذني وألم شديد بها.. يجب أن تجد لنا تفسيرا لحالتنا الغامضة تلك!!" وتوالت الصرخات والآهات, مع ضحكات الأميبا الملكة على رأس جيشها المتابع والمستعد للخطوة التالية من الخطة.
|
مواقع النشر (المفضلة) |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 2 ( الأعضاء 0 والزوار 2) | |
|
|
راديو قصيمي نت | مطبخ قصيمي نت | قصص قصيمي نت | العاب قصيمي نت |